من الساعات الأولى التي بدأ الاحتلال الإسرائيلي يحاول استيعاب ما جرى صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول، سارع بتبني استراتيجية إعلامية وسياسية تعيد استنساخ 11 سبتمبر/أيلول، ليعطي الهجمات صبغة عالمية، واستخدم العبارة صراحة: هذه الأحداث تشكّل الحادي عشر من سبتمبر لإسرائيل.
هذه الاستراتيجية سعت بكل ما تملك لإشراك الأمريكي أولاً ومِن خلفه الغربيّ شعباً وساسة كضحايا لهجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، ورفضت مجرد التعاطف، بل تركّزت على أن كل إنسان متحضّر في العالم هو ضحية هذه الهجمات، وأنّ إدانتها هي علامة التفوّق الحضاري. "الهجوم على واحد هو هجوم على الجميع".
في حالة مقاربة لـ11 سبتمبر/أيلول بنقل ساحة الحرب إلى كل بيت وشارع في العالم بين أبناء الحياة وأبناء الموت بين العالم الأول والعالم الثالث، أرادوها حرباً بلونين لا ثالث لهما، إما معنا أو علينا، وفي حالة الاستنساخ هذه ادعت أمريكا في خطابها أنها لا تحارب الإسلام ولا المسلمين: "الإرهابيون هم خونة لدينهم، يحاولون اختطاف الإسلام نفسه، العدو لأمريكا ليس أصدقاءنا المسلمين الكثر".
لم تجد الآلة الصهيونية خيراً من هذه الفكرة للترويج لها أن هناك فلسطينيين وهناك حماس، وحربهم ليست مع الفلسطينيين، وهي مقاربات تفتقر لواقعية التنفيذ، فقد كانت جريمة الطرح الأمريكي أن كل المسلمين إرهابيون ما لم تر أمريكا غير ذلك تحت مسمى الإرهاب الفضفاض، ما جعل كل المسلمين تحت عدسة القنّاص. أمّا قصور الطرح الصهويني فكان أن أبناء حماس ليسوا جمعاً غائباً عن ناظري شعبه يسكن الجبال ويتحدث بلغة البعيد المتدثرة بين كتب الأولين، بل هم في عمق تركيبة النسيج الفلسطينيّ، معروفو الملامح، من طين الأرض سمرتهم، ومن موج بحر البلاد المسلوبة حناجر أصواتهم.
هذه المقاربة لم تنجح ولم يسارع الشارع الفلسطيني إلى التنصّل من حماس، فهو لا يعبّر عن حماس إلا بمصطلح "المقاومة"، من تحت الأنقاض وعلى أسرّة الموت المؤقت وبين الأشلاء سجّلت مئات اللقطات هتافاتهم باسم المقاومة، فَهُم لا يعرفون حماس التي يتحدث عنها عدوهم، وهذه ليست المرة الأولى التي يعجز فيها الاحتلال الإسرائيلي عن فهم أيديولوجية الشعب الفلسطيني الذي فرض احتلاله عليه منذ أكثر من 75 عاماً، لأن الفهم ليس مرتبطاً بالملازمة.
عقب فشل هذه المحاولة، اقتبست الآلة الصهيونية من سردية 11 سبتمبر/أيلول تهديد الجمرة الخبيثة الذي أعقبها آنذاك، ففي لقاء الرئيس الإسرائيلي "إسحاق هرتسوغ" مع Sky news مؤخراً، زعم: "أن مقاتلي حماس كانت بحوزتهم تعليمات حول كيفية صنع الأسلحة الكيميائية". في محاولة جديدة لاستنفاد كل عناصر خلق حالة تهديد الإرهاب العالمي التي ابتدعتها أمريكا عقب أحداث 11 سبتمبر.
هذا كله أفرز رواية غربية متطرفة متداولة مكتملة الأركان مُشْبَعة بكل الصور النمطية المستخرجة من سقم الفكر الاستشراقي المتماشي طواعية مع سطوة نفوذ الخطاب اليميني المتطرف في الغرب، الأمر الذي دعا كثيرين إلى ضرورة مخاطبة الغرب بلغتهم، والدعوة لأن تكون الأولوية لشرح روايتنا الفلسطينية على حقيقتها لتجابه الرواية الإسرائيلية باللغة الإنجليزية لكسب دعم وتأييد الغرب ولتصحيح المفاهيم.
بالتأكيد إن التواصل بمختلف اللغات يساهم في تعزيز فهم القضية الفلسطينية، وخاصة باللغة الإنجليزية، فحتى يونيو/حزيران عام 2023 هناك حوالي مليار ونصف شخص في جميع أنحاء العالم يتحدثون الإنجليزية كلغة أصلية أو كلغة ثانية، وهو ما يزيد قليلاً عن 1.1 مليار متحدث باللغة الصينية المندرينية.
إذا كان كسب التأييد الغربي مرتبطاً بالحديث باللغة الإنجليزية فقط، والجهل الغربيّ باللغة العربية مسوّغاً لتبني الخطاب الإسرائيلي باعتبار اللغة الإنجليزية وسيلة التواصل الرئيسية في الصراع، فكيف إذا وصلت كل الكلمات باللغة الإنجليزية كما الحال في الغرب في جهود محاربة الإسلاموفوبيا، إذْ لم تُعجِز الوسائلُ مناهضي الإسلاموفوبيا في الغرب لتوضيح كل المفاهيم الشائكة حول الإسلام في الغرب باللغة الإنجليزية والفرنسية وكل لغة يمكنهم الحديث بها منذ عقود، لكن هذا لم يوقف حالة الاستقطاب والتبني الغربيّ لخطاب الكراهية المعادي للإسلام والمسلمين، ولم يمنع القوانين العنصرية المقيّدة للحريات الدينية للمسلمين.
لا يُفهَم أن هذه الجهود ذهبت سدى، لكن حصر المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي في اللغة فقط، لهو تقزيم لجذور الصراع وتبرئة لجمع من الغرب من الشراكة في جرائم الاحتلال. اللغة تساهم في إيصال المعنى، ولن تخلق الفهم المؤدي إلى فعل إذا لم تتوافر الرغبة الحقيقية للتواصل مع الآخر، وفي هذه الحالة هذا الآخر هو الفلسطيني.
الرواية الإسرائيلية لم تكسب التأييد في السابع من أكتوبر لأنها تتحدث بالإنجليزية، بل الاختراق الصهيوني للآلة الإعلامية والصحافية الغربية على مدار 75 عاماً أتى أُكله في السابع من أكتوبر، فاللوبي الصهيوني متجذر فكراً وبموظفيه في ماكينة الإعلام الغربي منذ عقود، ويتعاون معهم ليس لترجمة الواقع بالإنجليزية بل لتبني منظومة فكرية مكتملة قائمة على رواية تم زرعها وسقايتها بالعلاقات الدولية المتينة بين الاحتلال الإسرائيلي وبين أنظمة الدول الغربية السياسية والاقتصادية وتأثير اللوبيات الصهيونية حول العالم، وقد اختار جمعٌ من الغرب اعتناقها عن قناعة تامّة فأصبحت عقيدة، وقد قالها الرئيس الأمريكي "جو بايدن": "لا أعتقد أنه يتعيّن عليك أن تكون يهودياً لكي تكون صهيونياً، وأنا صهيونيّ".
فما يدور حالياً في القنوات الإعلامية الغربية وتحيزها التام للاحتلال الإسرائيلي ليس خطاباً إعلامياً بقدر كونه بيانات إعلان حرب تجاوزت الرواية الإعلامية بشكلها المعروف.
ليست معركتنا الترجمة إلى الإنجليزية، ولا يُعجِز الغرب فهم لون الدم المراق من رؤوس الأطفال المهشمة إذا تكلم الدم بالإنجليزية ليقول أنا طفل، هم ليسوا تائهين في الترجمة، فدماء الأطفال لا تحتاج ترجمة، والمنهجية القائمة على أنّ الغرب جميعه لا يفهم بسبب اللغة، تحتاج إلى مراجعة.
تُعرف المعارك بمعرفة خصومها، وهذه الحرب الخامسة على قطاع غزة المحاصر، ولم تُشنّ الحروب على غزة بجيش الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل هي زمرة عقائدية الفكر تشمل معسكراً حربياً غربياً هو ذاته الذي شنّ الحرب على العراق من قبل، هو ذاته الذي يشنّ حروبه كل يوم على المسلمين في أوروبا وفي أمريكا، الحرب على غزة حلقة ضمن سلسلة مسبوكة بالنّار مغلفة بمليارات الدولارات تُثار من خندق واحد، وعندما استُدعي جنوده حول العالم عرف كل منهم دوره ولم ينتظر من يُعلّمه، والوعي بهذا المعسكر يحتّم علينا التمييز بين خطاب التجريم المشترك والخطاب التعريفي بذريعة جهل اللغة، وقد يكون موجوداً لدى فئة من الغربيين باعتبار الغرب ليسوا سواءً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.