بالتوازي مع استمرار الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر، تتجلى أيضاً القدرة العالية للشعب الفلسطيني على الصمود، وقبل ذلك قدرته على الفعل المقاوم والتحدي. هذا الصمود الفلسطيني جاء على الرغم من فرض الاحتلال الإسرائيلي الحصار على قطاع غزة لسبعة عشر عاماً متواصلين؛ أو لعل هذا الحصار قد ساهم في تشكيل هذا الصمود الفلسطيني؟
على خلاف الضفة الغربية المحتلة -والكثير من مناطق النزاع في العالم- فإن قطاع غزة بقي معزولاً عن مشاريع التنمية الدولية ومحروماً من أنشطة منظمات المجتمع المدني الدولية ومشاريعها وتمويلها وأفكارها، والتي انتشرت مثل الفطر في الضفة الغربية، كما في غيرها من مناطق النزاع في العالم.
هذه العزلة التي فرضت على القطاع المحاصر شكلت شكلاً من أشكال العقاب الجماعي في مخالفة للقوانين الدولية، وأدت إلى تقويض وحدة الأرض الفلسطينية المحتلة، تاركةً 62% من سكان القطاع بحاجة إلى مساعدات غذائية، ومع نسبة بطالة بين الأعلى في العالم؛ إلا أنها ساهمت أيضاً في أن يتطور المجتمع الفلسطيني وبناه الاجتماعية والسياسية في القطاع بطريقة "عضوية" طبيعية، بعيدةٍ عن المنكهات الخارجية والوصفات الدولية الجاهزة "لبناء الدولة" و"محاربة التطرف" و"زيادة الانسجام المجتمعي" و"تعزيز المشاركة المدنية والديمقراطية".
بعد تأسيس السلطة الفلسطينية تضاعف عدد الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، خلال المدة بين 1992 و2007 لتصل إلى 372 (%82.3 في الضفة، و%17.7 في القطاع). وقد سارت هذه المشاريع بالتوازي مع هوس السلطة الفلسطينية "بفكرة الدولة" قبل التحرير، حتى ولو تحت ظل الاستعمار، وتوجه الداعمين الدوليين للاستثمار في مشاريع التنمية.
هذا الهوس جاء ترجمة لمشروع أوسلو الذي يرى خليل نخلة في كتابه "فلسطين، وطن للبيع" أن منظمات التنمية غير الحكومية كانت إحدى نتائجه. ولا يخفى أن هذه المنظمات التي تتنافس على الحصول على مشاريع التمويل الدولية مرتبطة بدورة التمويل التي تقدمها برامج وصناديق التمويل الدولية، وكذلك بتوجهاتها. ويرى خليل نخلة أن هذه المؤسسات ساهمت في تدجين الحركات السياسية الفلسطينية -وعلى رأسها اليسار الفلسطيني- ليتحول من فكر التحرر إلى فكر التنمية، في امتداد لمسار دولي لإدارة النزاعات يقوم على على نشر الفكر النيوليبرالي في التعامل مع النزاعات.
تحول المقاومة لشكل من أشكال "السياحة التضامنية"
وعلى الرغم من ادعاء هذه المنظمات سعيها "لتمكين الشباب" الفلسطيني، إلا أن العمل والأجندة الوطنية -وبالتالي اهتمامات العاملين معها- تراجع مع الوقت بشكل ملحوظ، فضلاً عن غياب وتغييب أي حديث عن التحرر الوطني. كما أن مشاريع "التمكين" تحولت مع الوقت إلى أداة لارتباط العاملين في هذه المؤسسات بعلاقة زبائنية مع الجهات الممولة.
ولعل ترجمة ذلك على الأرض في الضفة الغربية كان من خلال تراجع التسييس والعمل الفصائلي على حساب انتشار طبقة "منظمات المجتمع المدني" التي يتم التسويق لها أحياناً على أنها بديل عن الحركات السياسية ورافعة للعمل الوطني، من خلال الحديث عن تجسيدها "لعصر ما بعد الحداثة؛ فلا فصائل، ولا أيديولوجيا، ولا قيادة مركزية"، لكنها أيضاً تفتقر لأي "مطالب واضحة معبر عنها في برنامج"، ليتحول المشروع التحرري الفلسطيني إلى نضال شعبي ولجان شبابية تستجيب أكثر لنشاطات المتعاطفين الغربيين -المشكورين على جهدهم- وتصبح المقاومة شكلاً من أشكال "السياحة التضامنية".
غزة كمشروع تحرري بعيداً عن الإملاءات الخارجية
أما غزة فقد بقيت معزولة عن هذه المشاريع التنموية وعن محاولات إدارة الصراع فيها. فقد تبنى اللاعبون الدوليون والإقليميون سياسة ترتكز على حصار وتهميش القطاع لا إدماجه. وبذلك بقي القطاع محروماً نسبياً من هذه المشاريع التنموية، مع تجنب عدد من الممولين الدوليين -كالمؤسسة الألمانية للتعاون الدولي- العمل في قطاع غزة إما خوفاً من الوصم بالتعاون مع مؤسسات غير شرعية أو اتساقاً مع مشروع عزل سلطة حماس في غزة سياسياً.
وفي ذات سياق الحصار والعزلة لم يتم دمج اليد العاملة في قطاع غزة بالسوق الإسرائيلي، كما هو الحاصل في الضفة الغربية التي تتشابك فيها مصالح العمال مع متطلبات السوق الإسرائيلية بل حتى مشاريع الاستيطان، إذ تشير الإحصائيات إلى أن نسبة العمال من قطاع غزة الذين لديهم تصريح للعمل في إسرائيل هي نسبة محدودة إذا ما قورنت بذات العدد في الضفة الغربية -يذكر أن إسرائيل بدأت السماح لعمال غزة بالدخول للعمل في عام 2021. هذا لم يمنع بطبيعة الحال من نشاط بعض مؤسسات المجتمع المدني أو استمرار مشاريع المقاومة الشعبية في غزة، والتي تمثلت في مسيرات العودة، لكن الملاحظ أن البعد الوطني والفصائلي، وكذلك البعد السياسي، بقي حاضراً في هذه المشاريع؛ إذ بقي التحرير مقدماً على التنمية.
والآن، بعد تلقيها صفعة من خلال الهجوم الذي قامت به حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن إسرائيل تهدد بقطع العلاقات كلياً مع غزة. وعلى الرغم من أن هذا التوجه يخالف القانون الدولي والتزامات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني الذي ما زال تحت الحصار والاحتلال، إلا أنه هذا التهديد، كما الحصار المفروض على القطاع منذ أكثر من 17 عاماً، يعطي المجال لغزة وأهلها ومكوناتها الاجتماعية والسياسية أن تتطور ذاتياً وأن ترسم تصورها وتخيلها لدورها السياسي ومشروعها التحرري بعيداً عن الإملاءات الخارجية أو تهجين المؤسسات الدولية.
بالتأكيد هذه ليست دعوة لتمجيد الحصار وذكر محاسنه، وليست كذلك دعوة للانغلاق على الذات وتجاهل إمكانيات التعاون والاستفادة من تراكم التجارب والمعارف البشرية، لكنها تذكير بأن مشاريع التحرر لا يمكن أن تكون إلا ذاتية؛ فلا يمكن الوصول إلى استقلال دون أن تكون الرؤية والتصور والمنطلقات مستقلة ابتداءً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.