ولأنه طوفان فعلاً أتى على جل ما بناه الغرب منذ عقود وما ظهر من استقرار لسياساتهم في المنطقة، وما ظنوا أنهم حققوه تحت مسميات مختلفة؛ مرة تحت عنوان "السلام" ومرة باسم "التطبيع" وأخرى باسم "الإبراهيمية"، كما أصاب غرورهم واعتدادهم بقوّتهم وعبقريتهم في مقتل، لهذه الآثار وغيرها أحببت أن أضع قراءات تحاول أن تصف ما حدث وما نتج وإلى أين يمكن أن تؤول الأحداث:
أسباب ودوافع "الطوفان":
منذ انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من القطاع في 2005 تعامل مع غزة باتباع استراتيجية عُنونت بـ"استراتيجية السيطرة والإخضاع" ويسميها بعضهم استراتيجية "جز العشب" التي تقوم على العمل على إبقاء قدرات المقاومة متواضعة ولكن كافية لإدارة القطاع والسيطرة عليه وضامنة لعدم نشوء جماعات منفلتة (تتبع مثلاً داعش أو القاعدة..) يصعب التعامل معها، ولذلك طُبقت منذ ذلك الحين التكتيكات نفسها، فعمد العدو إلى محاولة:
– إنهاك المقاومة بهجمات دورية لا تنقطع؛ لمنعها من مراكمة التسلح أو تطويره، فحتى "طوفان الأقصى" نفذ العدو قبل ذلك 5 حروب مدمرة على القطاع وأهله.
– ضرب بنية المقاومة والعمل على خلخلة هيكلتها التنظيمية بتنفيذ عمليات الاغتيال الممنهج لقياداتها.
– زرع الشك لدى الأهالي وتيئيسهم من إمكانية تحسن أوضاعهم المعيشية في وجود المقاومة، بفرض حصار شامل على القطاع وخنقه اقتصادياً.
– تحطيم معنويات الأهالي بعزل القطاع عبر إنشاء جدار فاصل مجهز بأحدث تكنولوجيا الاستشعار والمراقبة، والغريب أن مصر الأخت والجارة الكبرى هي من كان لها السبق في هذا التكتيك ببنائها جداراً فاصلاً مع غزة (في 2009 بطول 14 كم وبعمق 25 متراً تحت الأرض) بلغت تكلفته حينها أكثر من ملياري دولار!
– السيطرة على الأموال التي يُسمح بدخولها إلى غزة وتحديد مجالات صرفها؛ حتى لا تستفيد منها المقاومة، مع الحرص على توفير بعض الموارد المالية للمقاومة (أموال الضرائب وتحويلات الرواتب) وتوظيف البعض من سكان القطاع؛ لإغرائهم ودفعهم إلى التعايش مع الحصار والتسليم بالوضع القائم.
وجاء "الطوفان" طبعاً لنسف هذه الاستراتيجية وفرض معادلة جديدة تحكم واقع ما بعد الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول، ويمكن أن نضيف إلى ذلك "ملف الأسرى" كسبب مباشر يتقوى مع رغبة حماس في الحصول على صفقة تبادل ضخمة وبشروطها، كما يمكن اعتبار الاعتداءات على الأقصى كدافع أساسي أيضاً، فليس من باب البحث عن "الصدى الإعلامي" أن يكون الأقصى هو عنوان الهجوم.
لكن بمراجعة حجم الهجوم ودقة تنفيذه نجد أن التحضير كان بالضرورة منذ مدة طويلة، بين تخطيط وتدريب وإعداد لوجستي واستخباراتي، وأصلاً فالمقاومة لا تحتاج أسباباً أو دوافع جديدة لمحاربة الاحتلال في إطار مشروعها: تحرير الأرض وإعادة الحقوق المسلوبة. وكان للتوقيت أهميته، لأنه جاء بعد أن اقتنع العدو ورعاته وحتى أذنابه من بني جلدتنا بأن سياساته ناجحة 100%، فالقطاع في وضع السكون وردود المقاومة برشقات صاروخية أصبحت معتادة ولم تتجاوز الحد المرسوم "تحت عنوان المستوى المنخفض للتوتر"، بل تجرأ مُمثله في الضفة بتسفيهها ووصفها بـ"العبثية".
ردود الفعل:
وكما تنص عليه نواميس الكون، فلكل فعل رد فعل، لكن الجديد أن المبادرة والفعل هذه المرة جاءا ممن ظن الكثير أنه الحلقة الأضعف، لهذا كانت ردود الفعل متباينة إلى حد التناقض، عرت كثيرين وخلقت وضعاً جديداً ليس من الممكن العودة عنه ويمكن تلخيصها في:
– عرت الاحتلال الإسرائيلي الذي فقد صوابه وشلت حركته إلى درجة عجزه عن استرداد السيطرة على غلاف غزة، ولم يتمكن من ذلك إلا بعد أن أتم شباب "القسام" مهامهم، ولأنه أصيب في مقتل، أدرك منظروه أن أسس استراتيجيتهم الأمنية قد تهشمت، فلا قوة الردع نفعتهم، ولا سياسة الأسوار حمتهم، ولا دعاية "الجيش الذي لا يقهر" نصرتهم، ولولا الرعاية التامة والدعم غير المحدود من أمريكا خصوصاً، لما أمكنه إعادة توازنه وإعلان الحرب على غزة، التي هدفها الوحيد هو الانتقام ومحاولة رد الاعتبار بسياسات العقاب الجماعي، فمنع عن الناس القوت والماء وقطع الكهرباء، ونزل تقتيلاً وتشريداً بالعزل والأبرياء من النساء والأطفال، ولم تستثنِ سياسة التدمير الشامل أي مبنى فلا مسجد ولا مستشفى ولا مدرسة ولا مؤسسة رسمية ولا حتى دولية، في منأى عن القصف والتدمير، في مشهد همجي لم يعرف له العالم مثيلاً منذ عقود.
عرت الغرب المنافق: ربما من أهم ما حققه "الطوفان" أنه عرى الغرب المنافق ونزع عنه ورق التوت الذي كان يداري به حقيقته، فأمريكا وحلفاؤها الأوروبيون كانوا في الموعد ووقفوا وقفة رجل واحد خلف صنيعتهم، ووفروا للاحتلال كل الوسائل والإمكانيات الشرعية منها واغير الشرعية بـ:
-الدعاية الإعلامية الرهيبة والمفضوحة لتبرير كل جرائمه ومحاولة تبييض سجله، والدعم المادي المباشر أو على شكل أسلحة وذخائر ومعلومات استخباراتية لا حدود ولا سقف لها، والدعم السياسي بحشد دعم عالمي لطروحاته ومقارباته من جهة ولحمايته ونصرته في المؤسسات الدولية من جهة أخرى
والجديد الذي تجاوز كل التوقعات تحريكهم لجيوشهم والاستعداد للتدخل المباشر في الحرب، متناسين كل القيم الأخلاقية والمبادئ السياسية الأساسية التي صدّعوا رؤوسنا بها والتي يدعون أنها قمة ما توصلت إليه العبقرية البشرية.
-عرت دولنا وأنظمتنا: إذا كان ظلم البعيد متوقعاً والمطلوب صده وتحمّله، فإن ظلم ذوي القربى مُر يقهر إرادة المقاومة ويعطل مشروع التحرر والانعتاق، فغزة العزة لم تجد من يسندها إلا بعض حكوماتنا التي رفضت "ببطولة..!" إدانة المقاومة رسمياً، لكن دون أن يتبعه أي شكل من أشكال الدعم المادي المباشر، وأقسى ما أمكنهم فعله هو التعاطف مع ضحايا العدوان والسماح بجمع بعض المعونات للجرحى والمشردين، ومنهم من تجرأ ورخص لشعبه بالسير في مسيرات داعمة لغزة تحت سقفه ورقابته بمنطق التنفيس؛ خوفاً من الانفجار الذي يخرج الوضع عن السيطرة.
-عرت حلف التطبيع: فمصر ومجموعة المماليك التي ادعت نجاح خيارها الاستراتيجي تحت مسمى السلم ومحاولتهم تجاوز المعطى الفلسطيني كشرط لازم وكافٍ في أي معادلة وقعوا في شر أعمالهم وفقدوا كل مصداقية حتى مع أنفسهم، فأين تصريحاتهم وتأكيداتهم بأن مسعاهم يدخل في إطار الخير للشعب الفلسطيني وقضيته، وإن كان أغلبهم خلطوا عملاً حسناً بآخر سيئ في تعاملهم مع تداعيات "الطوفان"، فإن الإمارات تجاوزت كل الحدود بفرض نفسها كدولة متصهينة أكثر من الصهاينة أنفسهم واشتراكها بجهد كبير في محاولة شيطنة المقاومة والدعوة إلى معاقبتها، والشيء نفسه فعله السيسي تقريباً بدعوته إلى تهجير الغزاويين إلى صحراء النقب ثم إبادة المقاومة! والشيء الغريب الذي لم أجد له تفسيراً، هل للإمارات القوة اللازمة لمواجهة غضب الشعوب؟!
– "الطوفان" عبر ونتائج: "طوفان الأقصى" الذي أسقط كل الأقنعة وعرى الكل أمام الكل نسجل من خلاله بعض العبر المستخلصة التي نرى من أهمها أن:
1-"الطوفان" أكد لمن كان لديه ريب أن الغرب المنافق بقيادة أمريكا هو رأس العداء للأمة وقضاياها، فاق في عدائه وحقده الاحتلال في حد ذاته.
2- الطوفان" خلق وضعاً جديداً وأسس لمعادلة مختلفة طرفها الأساس الشعب الفلسطيني.
3-"الطوفان" أثبت أن الإيمان بالقضية هو العامل الأول للنصر والفلاح، والتعلل بالإمكانات المادية منهج الفاشلين.
4- "الطوفان" نجح في حربه النفسية (خاصة مع اعتماده لتصوير الهجوم) في المس بمعنويات العدو وإضعاف ثقة الصهاينة بمنظومتهم الأمنية والعسكرية، وبالتالي الدفع إلى تآكل قوة ردعهم الغربية في أصلها.
6- "الطوفان" كما أظهر طفرة في قوة المقاومة وتطور أساليبها، كشف عن عمى استراتيجي لدى العدو ورعاته جعلهم يعتقدون أن إقدام المقاومة على الهجوم والمبادرة أمر مستحيل.
وأخيراً، نقول إن الحرب على غزة مهما كانت مساراتها ومهما كانت مآلاتها وكيفما انتهت، فإن "طوفان الأقصى" قفز بالقضية إلى وضع آمن لا يمكن معه العودة إلى الوراء، وتداعيات الحرب الإسرائيلية السادسة لن تمحو تداعيات "الطوفان" التي نشأت والتي ستنشأ في قابل الأيام سواء في فلسطين أو في محيطها، أقلها أنه بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول لن يستطيع أي كان ومهما كانت قوته، تجاوز الفلسطينيين أو محاولة إلغائهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.