ملايين من العرب والمسلمين حول العالم لا يستطيعون إدخال مساعدات إنسانية إلى غزة، ما لم يأذن بذلك بضعة مسؤولين إسرائيليين، ألا يبدو ذلك مخزياً وعجيباً في آن؟ لماذا أضحت هذه الملايين عديمة الفاعلية ومن دمّر فاعليتها؟ لا شك في أن ثمة إجابات كثيرة، لكن ما يهمني في هذا المقال هو دور ما تسمى الأوطان أو الدولة الوطنية الحديثة في قتل فاعلية الناس وحصرها وحشرها وتجريدها باستخدام أساليب مادية وأخرى معنوية.
يحدثونك عن استقلال الأوطان، وعن بذل الأرواح والدماء فداء لها. هي ليست أوطاناً، بل زرائب أكثر تطوراً من تلك التي تعيش فيها الماشية، مع فارق أن هذه الأخيرة تحاول التحرر والخروج من الزرائب، بينما نحن نستمتع بزرائبنا ونقدس حدودها إلى حد التعصب والاستعداد للتضحية في سبيل أن تبقى خاصة بنا، نحمل هوية باسمها، وجنسية تربطنا بها، وولاء لا يتزعزع للحفاظ على بقائها واستقلالها.
يدخل الطفل المدرسة غضّاً طريّاً، فيلقنونه الهتاف للوطن، ويعلمونه الوقوف لنشيد الوطن، والانحناء لراية الوطن، وهذا يبدو أمراً إيجابياً يغرس في الطفل حب الوطن، لكنه يغرس في وعيه أن وطنه ليس الوطن الإسلامي الرحب، بل هذه القطعة الصغيرة، وما يدري الطفل أنه يُعد بعد هذا التلقين لكي يكون بيدقاً ليحمي الزريبة المسماة الوطن، ويفكر داخل حدود هذه الزريبة فلا يعنيه ما يجري لإخوته المسلمين في بقية الأقطار، لأن قانون الزريبة يصنعه على هذا النحو.
وفق قانون الوطن الزريبة، فإن كل دولة لأبنائها فقط ولا علاقة لهم بأبناء الدول الأخرى، ولا بما يجري فيها، فمصر للمصريين، والعراق للعراقيين، والجزائر للجزائريين، وتركيا للأتراك، وسوريا للسوريين، وماليزيا للملايويين، وهذا يعني أن لا علاقة لابن تونس بما يجري في فلسطين من قتل وتدمير، ولا علاقة لابن باكستان بما يحدث في سوريا من إرهاب وتهجير، ولا صلة لابن مصر بما يعانيه مسلمو الصين من استئصال وتطهير، وهكذا ليستمر قانون الزريبة إلى ما شاء الله، فهو يوفر للأعداء قوة ومنعة وحماية لمصالحهم دون عناء يتكبدونه أو مشقة يبذلونها.
هل سمعتم عن شعوب انتفضت عن بكرة أبيها رفضاً للكانتونات التي تقبع بداخلها ونصرة لقضايا المسلمين في أقطار مجاورة فضلاً عن أخرى بعيدة؟ نادراً. فمعظم الشعوب أصبحت ترى في ذلك تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
فأكثرهم يتحدث عن قضية فلسطينية تهم الفلسطينيين وحدهم، وبعضهم يتحدث عن قضية عربية متجاهلاً أغلبية المسلمين من الأعراق الأخرى، فالمعركة إما صراع فلسطيني إسرائيلي وإما صراع عربي إسرائيلي في أحسن الأحوال. هل سمعتم خطاباً يدعو الناس إلى اعتماد الإسلام كأساس في معارك التحرر التي تخاض من حين لآخر أسوة بالإسرائيليين الذين يتحدثون عن يهودية الدولة والمعركة؟ أحياناً، فالأغلبية المحكومة بقانون الزريبة المهزومة ثقافياً، تعد ذلك دعوة داعشية متطرفة لاستفزاز الغرب وتشويه صورة الإسلام!
إن هذه الأوطان لم نخترها نحن بإرادتنا، إنما فرضها علينا المستعمر الغربي، ورسم لنا الوزيران سايكس وبيكو حدود عدد منها، ثم لما مُنحنا الاستقلال الشكلي أقررناها، واستلهمنا بعض راياتها من نماذج جاهزة اقترحها علينا الوزير البريطاني مارك سايكس، ثم سيّجناها بحدود ملموسة على الأرض، وحدود فكرية في عقولنا، فغدت هذه الأوطان زرائب معزولة بعضها عن بعض، محكومة بقوانين فرضها المستعمرون على المُستعمَرين.
إن الغرب الذي صُنعت أوطاننا على أعينه، يمنعنا حتى من اختيار من يديرها، وإن حدث أن اخترنا حاكماً محترماً لدولة ما، فلا يتردد لحظة في إسقاطه عسكرياً عبر المنظومة العسكرية التي تشكل قوة ضاربة للغرب في ضبط الأوطان ومن يعيشون فيها، فالجيوش وظيفتها قمعنا إن ثرنا ومنعنا إن قررنا مناصرة إخواننا في الأقطار الأخرى.
وهذا الغرب، الذي فتننا بمحاضراته عن حقوق الإنسان، لم تهتز له ذرة من إنسانية ليسمح لحاكمي أوطاننا بإدخال المساعدات الغذائية لأهلنا في غزة، وعددهم أكثر من مليوني إنسان، بل انصب اهتمامه على مئات من الرهائن من ذوي البشرة البيضاء والعيون الزرقاء الذين أسرتهم كتائب القسام في "طوفان الأقصى".
وهذا الغرب الذي حرّم على شعوبنا الجهاد نصرة للمستضعفين، واعتبره إرهاباً عابراً وتطرفاً إسلاموياً، هو نفسه الغرب الذي حشد آلاف المتطوعين للقتال في أوكرانيا ضد الروس وسمح لإيران بحشد عشرات الآلاف ضد أهلنا في سوريا والعراق، وقد يحشد أضعافهم مستقبلاً للقتال في "أرض الميعاد" ضد من يسميهم الإرهابيين الفلسطينيين.
وهذا الغرب الذي يتغنى بمنظومة حقوق الإنسان ويملي علينا دروسه فيها، هو نفسه الذي يصفنا بالحيوانات البشرية على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت، وهو يرى أن تدميره وإبادته لنا هما حرب الحضارة على الوحشية، كما ردد نتنياهو وكما ردد كثيرون قبله عن حروب الاستعمار التي جرت في أقطارنا في القرنين الماضيين.
إنني إذ أصف هذه الأوطان بالزرائب، فإنني أضرب مثالاً لتقريب الصورة، عن نظام محكم الإغلاق يشبه تماماً نظام الزريبة، فهذه الأوطان حبستنا في دائرة اللافعل، وأبقتنا أسارى لديها بالجنسية والجواز والرقم الوطني، ومنعتنا من الانتفاع بخيرات الأقطار الأخرى لأننا لا نملك جنسيتها، وحرمتنا شرف نصرة الحق والانتصار للمستضعفين في أرض فلسطين وغيرها من الأقطار، لأن ذلك لا يعنينا ويقع خارج حدود زرائبنا.
أتساءل وكلي حسرة: كيف سيبدو الوضع لو لم تكن هذه الزرائب المسماة "أوطان" موجودة بشكلها الراهن، وكيف سيهب الناس لنجدة بعضهم بعضاً ومواساة المحتاجين عند الشدة، وكيف سينعم المسلمون بخيراتهم التي ستصيب أكثريتهم بصرف النظر عن انتمائهم الجغرافي، فلا حدود مرسومة ولا رايات مزعومة، ولا أنفس مهمومة؟ هذا ما سيحدث لو لم تكن هناك هذه الزرائب التي قسمت عالمنا الإسلامي إلى عشرات الدول.
عزيزي القارئ، إن ما تدعوه وطنك، هو في الحقيقة زريبة أنت محتجز فيها، فلا يُسمح لك بتجاوز حدودها، ولا يسمح لك بالتفكير خارجها. أمي أيضاً، لديها زريبة أغنام، ينقصها فقط النشيد الوطني والعلم والاعتراف الدولي، وستصبح دولة مثلها مثل بقية هاته الدول (الزرائب) العربية والإسلامية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.