شكل السلوك الغربي تجاه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة صدمة بالغة لدى جل المتتبعين، فلم يتوقع أحد، حتى أكثر المتشائمين، هذا المستوى من السفور في التعبير عن الاصطفاف الكامل مع الإسرائيليين، من التبني الكامل لروايتهم من طرف الدول الغربية الكبرى، وصولاً إلى الإسناد الأمريكي بالسلاح والعتاد وحتى المشورة من خلال مشاركة الرئيس ووزيري خارجيته ودفاعه في اجتماعات سيادية صهيونية كمجلس الحرب، كل هذا في مواجهة صمود بقعة صغيرة لا تمثل إلا أقل من 1.33% من حدود فلسطين التاريخية.
فمع تسليمنا بالانحياز الغربي للكيان منذ نشأته، إلا أن التعاطي معه كان يتم بقدر من الذكاء مع الحرص على تبادل الأدوار بين مختلف داعميه وإظهار بعضهم التعاطف مع جزء من مظلومية الفلسطينيين ومحاولة أنسنة العدو الإسرائيلي لدرجة إبراز تضامن بعض "حقوقيي" الكيان مع حقوق الشعب الفلسطيني، أما اليوم فالعكس هو الحاصل، وبدل تجميل صورة الإسرائيلي ظهر قبحهم وانعكس على تصريحاتهم التي تتسم بالخشونة، والتي تنهل من الحقبة الاستعمارية، حيث زالت كل الشعارات حول الحريات وحقوق الإنسان لصالح غاية واحدة هي حماية "الأزعر" المدلل من طرف إخوته الكبار.
لقد كشفت عملية 7 أكتوبر البطولية "الدولة العبرية" كما لم تنكشف من قبل، حتى تلاشت صورة تلك الدولة التي لا تُقهر، وحل محلها كيان مهزوز احتاج لمن يربت على كتفه من أجل رفع معنوياته، فاستعاد بكائياته كي يستدر عطف العالم، وهكذا بعد أن أفاق من صدمته لم يجد غير الأطفال والنساء ليشفي غليله مستفيداً من الغطاء الذي وفره الغرب له عبر بروباغندا مكثفة تشيطن خصومهم ويهدر العالم المتحضر بها دمهم بتحويله إياهم إلى مرتبة أدنى من الحيوانات ليتسبب في مذابح يندى لها الجبين ترقى إلى الإبادة الجماعية.
اللافت أكثر أن تلك البروباغندا لم تقتصر على خطاب السياسيين الغربيين الخارجي، أو على تغطية الإعلام المتحيز للطرف الإسرائيلي، بل تطورت لتتحول في سابقة هي الأولى من نوعها إلى محاكم للتفتيش نُصبت لمواطني تلك البلدان وللمقيمين فيها، تحرم الأفعال التضامنية الميدانية مع غزة وتصل إلى كتم أنفاس المشاهير ومعاقبتهم على مواقفهم، كما يحدث لعدد من الرياضيين العرب، أبرزهم نصير المزراوي وأنس جابر وكريم بنزيما، الذي هُدِّدَ بسحب جنسيته الفرنسية وسحب الكرة الذهبية التي حصل عليها سنة 2022، بل وصلوا حد اتهامه بالانتساب للإخوان المسلمين.
إن تجاربنا مع المعسكر الغربي تجعلنا ندرك أن الغرب لا يتقبل الآخر إلا إذا هيمن عليه، فيترك له هامشاً من الحرية ليمنّ عليه به ويظهر تفوقه على آرائه بما يملك من أدوات التأثير الضخمة على الرأي العام، لكن ما إن يحقق ذلك الآخر بعض النجاحات على الأرض فيكتسب أنصاراً جدداً، وتبدأ قاعدته في التمدد حتى يسارع إلى لجمه وإلى فرملة نشاطاته، شهدنا هذا في محاربة المظاهر الإسلامية التي أصبح يضيق ذرعا بها بعد أن تنامت، وشاهدناه في عودته عن شعار الحرية الاقتصادية التي آمن بها حين كان يرغب في اكتساح أسواق غيره، وما إن واجهته الصين بنفس أسلحته وتمكنت من التغلغل في أسواقه عاد للتمترس حول الحمائية (نموذج ترامب واليمين الأوروبي).
أما الحرية السياسية، فهي بدورها أُفرغت من مضامينها فلم نشهد تعددية إلا داخل لون واحد في الديمقراطية الغربية، وقد شهدت الماكارثية في أمريكا وما فعل بالحركة الطلابية الفرنسية نهاية الستينيات أيضاً تقليم أظافر أي توجه يختلف عن السائد، حيث يعبر عن ضيق حويصلة الغرب بالآراء المناقضة لديمقراطيتهم، أما في حالة التفاعل مع القضية الفلسطينية فقد لزم الأمر استدعاء هولوكست جديد بعد أن ضعفت تأثيرات المحرقة القديمة في الأجيال الجديدة الذين لا يستشعرون عقدة الذنب التي كان يحس بها من قبلهم، لذلك عمدوا إلى تحويل حماس إلى بعبع يخوفون به كل من فكر في مناصرة المقاومة الفلسطينية.
الحقيقة أن الغرب لم يتغير، فنحن من أسأنا قراءته بعد أن وهنت نبرات العداء حياله، وانسقنا مؤخراً إلى التماهي مع بعض قيمه ومحاولة التوافق معها حتى ولو بالتلفيق، مما أحدث تشوهات في الجسد العربي والإسلامي أضعفته وجعلته معرضاً للاختراق إلى أن جاءت هذه الأحداث لتصحح تموقعنا ولتعيد تذكيرنا بمن نحن؟ ومن هم أعداؤنا؟ وماذا يريدون منا؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.