وسط مشهد تراجيدي تختلط فيه رائحة الموت مع دخان الدمار المتصاعد من قطاع غزة، تبدو شهية نتنياهو مفتوحة لتحقيق أكبر قدر من الخسائر في عمليته الانتقامية ضد حركة حماس، ما دام ذلك يحدث بغطاء أمريكي وغربي شرعن تدمير غزة فوق رؤوس ساكنيها بمنطق أعرج وصف الإبادة دفاعاً عن النفس وأعطى الحق لإسرائيل لمحاربة "الشر بالشر".
وكما كان متوقعاً فقد فشل القرار الروسي عبر مجلس الأمن في استصدار قرار يوقف إطلاق النار، وأعطى الفيتو الأمريكي البريطاني الفرنسي الصلاحية لإسرائيل لاستكمال مخطط "إضعاف قدرات حماس" والذي يتركز على إلحاق أكبر ضرر ممكن بالخصم؛ بغية شل قدراته على الهجوم من جديد.
قد يقول القائل لماذا عجزت إسرائيل عن القضاء على حماس رغم الفروقات الهائلة في القدرات العسكرية وفي ميزان القوى؟ وهل كانت حماس بتلك القوة حتى تضع لها إسرائيل ألف حساب؟ هنا من الصعب استيعاب أن إسرائيل لا ترى في حماس شراً مطلقاً بل ترى فيها شراً لا بد منه، فمع وجود فتح في الضفة وحماس في غزة ضمنت إسرائيل وجود مشهد سياسي فلسطيني منقسم شبيه إلى حد ما بحالة تنافر أقطاب المغناطيس، وبهذا تبقى معادلة الفصل بين غزة والضفة قائمة، وهو واقع ساهم بوضع العصا في عجلة حل الدولتين.
إسرائيل رغم كل ما تقوله عن وجوب القضاء على حماس لا تعمل على أن يكون ذلك عسكرياً محضاً لما يمثله اجتياح غزة من مجازفة حقيقية قد تنتهي بتكرار مغامرة اجتياح بيروت، وهو ما من شأنه أن يضرب سمعة جيشها في العمق عندما تزج به في حرب شوارع يكون فيها القتال من المسافة صفر في صالح صاحب الميدان حتى مع تفوقها التكنولوجي، إسرائيل باختصار تريد أن يأتي سقوط حماس من الداخل لتضرب أيديولوجيا المقاومة في الصميم.
مع مرور السنوات وتعدد المواجهات أثبتت استراتيجية الاحتلال فشلها في إسقاط حماس من داخل غزة، وتأكد أن رصيدها الشعبي ربما يضعف من حين لآخر لكنه لا ينفد، صحيح أن الحصار والدمار وزيادة الأعباء الاقتصادية عوامل تساهم في ضرب شعبية حماس كلما ساءت الأحوال الاجتماعية بسكان غزة، لكن تأتي المواجهة بكل ما تحمله من أضرار وأعباء لتشحن رصيدها الشعبي وترفع من مستوى التعبئة الشعبية ضد الاحتلال ليس داخل غزة فقط وإنما خارجها أيضاً.
دعشنة حماس مصطلحات جديدة تتخذ منها إسرائيل شعاراً لحملتها الإعلامية الموجهة للخارج، ليس فقط لمحاولة تبرير حجم العنف الذي تمارسه منظومتها الأمنية في الرد على "طوفان الأقصى" بل سعياً منها لشيطنة المتعاطفين مع الحركة وربط مفهوم المقاومة بمفهوم الإرهاب، وهو عمل دؤوب تحاول أن تصل من خلاله إسرائيل إلى إخضاع صناعة المحتوى الفلسطيني الداعم للمقاومة أو تأييده عبر مواقع التواصل الاجتماعي للحجب تحت بند الترويج للإرهاب ومن ثم تحويله إلى جريمة تستدعي المساءلة القانونية.
على مدى أزيد من عقد مارست إسرائيل سياسة العقاب الجماعي ضد سكان غزة وتأكد فشلها في إضعاف معنويات الغزيين وفي إبعاد الخطر القادم من غزة، وهي اليوم بتكرارها لنفس السياسات الخاطئة لم تكتفِ فقط بإثبات فشل مقاربتها الأمنية وسياستها في احتواء خطر حماس التي أصبحت أكثر شراسة من ذي قبل، بل إن فشلها امتد ليفرغ معاهدات السلام الأخيرة من محتواها، بعد أن أدارت إسرائيل ظهرها لأصدقائها الجدد ومنعتهم حتى من إدخال الماء والأكل وضمادات الجراح للمدنيين في غزة.
إسرائيل بعد كل ما فعلته اليوم في غزة لن تزيد إلا في منسوب الكراهية ضدها في المنطقة بقدر ما حملته الصور من معاناة يتكبدها الأبرياء في قطاع غزة ومن تهييج للمشاعر بالحديث عن خطة تهجير قسري تعيد الزمن إلى الوراء والنكبة إلى الأذهان، وإلى أن يدرك نتنياهو ومن معه بأنه لا فائدة من انتصار يخلق دافع الانتقام، ستستمر إسرائيل في ارتكاب نفس الأخطاء وفي تقديم المزيد من الأسباب لمعاداتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.