قد يقول قائل إن الوقت ليس هو وقت التحليل والحديث عن تبعات هذا الحدث الجلل، الذي سيغير المنطقة بلا شك، وإن الوقت هو وقت المعاناة الإنسانية والمجازر التي يتعرض لها أهلنا في القطاع المحاصر منذ 18 عاماً.
لكن هذا لا يتعارض مع ذاك، فالتضامن والتآزر مع إخوة لنا في الدين والعرق والإنسانية والجوار لا يمكن أن يتوه في زحمة التحليل السياسي والاستراتيجي عن تبعات هذا الطوفان، بل بالعكس، فإن فهم تبعات هذه العملية قد يدفعنا طوعاً أو كرهناً للوقف في خندق الإنسانية قبل السياسة.
الطوفان أعاد القضية للواجهة
خلال الأعوام الماضية زادت وتيرة التطبيع العربي مع إسرائيل، ودخلت دول لها ثقلها في العالم الإسلامي على خط هذا التراجع عن القضية وأهلها، حتى ظن الباحثون والمعنيون بالتحليل السياسي قبل غيرهم، أن إسرائيل لم تصبح معزولة كما كانت من قبل، وأن العرب ومِن خلفهم المسلمون لم يعودوا مشغولين بالأقصى ولا القدس، ولا معاناة أهل غزة؛ لأن لديهم ما يشغلهم، وقد كان هذا بالفعل، لكن الحقيقة أننا لم نكُن حينها على دراية كافية بمعادن الشعوب، وبعيدون عن هموم ومشاكلهم حتى ظهر ذلك حين كانت القضية على المحك فظهر معدنهم الحقيقي.
منذ الساعات الأولى لعملية "طوفان الأقصى" وجدنا مَن له ومَن ليس له في السياسة يتابع ما يحدث بشغف واهتمام منقطعي النظير، رغم أن هذا النوع من الناس كان قبل الواقعة بساعات لا يهتم كثيراً لما يحدث في جنبات المسجد الأقصى، لا أعرف لماذا، ولكن ربما أن الاستفزازات الإسرائيلية كانت متكررة، وقد كان البعض ربما ملّ منها.
ومن حينها والناس لا حديث لهم ولا همَّ لهم إلا ما يحدث في غزة وما حولها، وباتت القنوات الإخبارية والمصادر الإعلامية هي أولى اهتماماتهم ومتابعتهم، وغاب عنهم الاهتمام بالكماليات الحياتية بعدما أرهقتهم لسنوات، وأصبحت الصور القادمة من القطاع ترفع همم الناس لا تثبطهم.
فالطوفان أعاد للقضية الفلسطينية مكانتها بين العرب والمسلمين وأحرار العالم، فأصبح جُل الناس يعيدون تقييم المشاهير على موقفهم من الأحداث في غزة، فكم كان اللاعب المصري محمد صلاح قريباً من قلوب ملايين العرب، وخاصةً أبناء جلدته منهم، ثم أصبح بعيداً قبل أن يخرج ويعلن تضامنه المنقوص مع غزة كأنه لاعب أجنبي وليس صلاح "فخر العرب"، الغريب أيضاً أن مشاهير آخرين قبل الطوفان كانوا منبوذين من قطاع من الناس، لكن عادوا ولو من بعيد.
المشاهير
استكمالاً للجملة السابقة، كشفت عملية طوفان الأقصى عن تضامن مشاهير سقطوا منذ زمن طويل من حسابات كثير من الناس، منهم مثلاً القارئ الكويتي الشهير مشاري العفاسي، الذي خفُت نجمُهُ منذ سنوات بسبب مواقفه السياسية التي جلبت له الغضب من شريحة كبيرة من الناس، لكنه في هذا الحدث عاد ليصطفّ في خندق المقاومة وخندق غزة، وحتى خندق حماس، التي كان يكيل لها السباب قبل سنوات، حتى اعتبره البعضُ الوجهَ الديني للتطبيع الخليجي.
باسم يوسف، الإعلامي الشهير والساخر المحترف، قبل سنوات اتَّهمه البعضُ بأن مهتمه انتهت بما حدث للرئيس المصري الراحل محمد مرسي، وأنه لم يكن يوماً منذ 2013 مهتماً بقضايا الأمة الإسلامية، وخاصةً قضيةَ القدس، لكنّ الرجل قام بما يتوجب عليه في مقابلة إعلامية مع المذيع البريطاني الشهير بيريز مورغان، والتي لاقت صدىً غير مسبوق، حتى وصفها مسؤول خليجي سابق كبير بأنها فعلت ما لم تفعله الجامعة العربية، ولا أمينها العام!.
الكثير من الفنانين والإعلاميين في مصر، على سبيل المثال، كانوا لا يهتمون بهذه الأحداث، وحتى لو أبدى بعضهم تعاطفاً مع القضية، كان يضع نفسه في مكانة الوسط، حتى لا يؤخذ عليه هذا الموقف فيما بعد، لكن هذه المرة كانوا أكثر جهراً وأعلى صوتاً في الدفاع عن القضية والأقصى، وحتى وإن كان بعضهم تعاطف دفعاً بأوامر سياسية، لكن التعاطف في النهاية واجب، ولو كان مصطنعاً.
ليس هؤلاء فقط مَن عادوا ووقفوا مع الفلسطينيين في قضيتهم، فغيرُهم الكثير، ولا يتسع المجال للحديث عنهم، لكن الحالة نفسها أعادت روح القضية في قلوب المشاهير، وأزاحت الكثير من الغبار عنها، وأعادت إلى الذاكرة صور المشاهير الذين دافعوا عن الانتفاضة الفلسطينية الثانية مطلع الألفية الحالية.
الشعوب العربية
كان البعض يعتبر أنَّ الرهان على الشعوب العربية مقامرة فاشلة، لن تُفضي لأي شيء، خاصةً في ظل انشغال كلٍّ بمصائبه، لكن هذا الرهان خسر منذ سقوط المظليّ الأول من القسام على المستوطنات الإسرائيلية في تخوم القطاع، وتَسمّر الناس أمام محطات التلفزة أو أمام شاشات هواتفهم الذكية لمتابعة ما يجري، ليس هذا فحسب، بل التفاعل أيضاً في ظل إتاحة وسائل التكنولوجيا لهم، هذا الأمر الذي لم يكن متاحاً من قبل طوفان منصات التواصل الاجتماعي.
فالشعوب العربية أثبتت أنها حيةٌ أمامَ كل محاولات إماتتها، وخرجت التظاهرات في بلاد العرب والعجم للتضامن مع قضية القضايا، وغمرت آلاف الشوارع للتنديد بمجازر إسرائيل في حق سكان غزة، وأصبحت منصات التواصل الاجتماعي تعج بالمواقف الداعمة لغزة وسكانها، وأصبح الذين لديهم القدرة على التحدث باللغات الأخرى والكتابة لها يشنون معارك فكرية وإعلامية مع الداعمين لإسرائيل، ويحاولون تغيير الرواية "المفبركة" التي بثتها إسرائيل من أول يوم عن ارتكاب حماس مجازر بحق مدنيين إسرائيليين، حتى وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه في فخ الرواية الإسرائيلية المفبركة.
دول عربية كثيرة كانت أنظمتها تمنع وتقمع حتى الكتابة على منصات التواصل الاجتماعي خلال السنوات الماضية، لكن بعضها أُجبر على فتح المجال للتظاهر والتعبير الحقيقي عمّا يشعر به الناس، ودول أخرى سمحت بالتظاهر لمآرب سياسية تخصها فقط، لكن في النهاية خرج الناس للشوارع، وسيخرجون في قابل الأيام إذا لم تتوقف هذه الحرب في أقرب وقت.
المقاومة
المقاومة لم تكن بعيدةً حتى تعود للواجهة من جديد، لكن الذي عاد هو مكانها عند الشعوب والأنظمة العربية والعالمية، فقطاع كبير جداً من الشعوب العربية حسم أمره من المقاومة، واعتبر أن الحل الوحيد لقيام دولة فلسطينية هو خيار المقاومة لا خيار السلام من طرف واحد، الذي تنتهجه أغلب الأنظمة العربية مع إسرائيل، وقطاع آخر قصير يرى أن هذه القضية لن تُحل إلا بالمفاوضات والسلام، لكن بعد عملية طوفان الأقصى تغيّرت نبرة هؤلاء الذين كانوا يقفون مع القضية، وليس مع المقاومة، وأصبحوا يكيلون للقسام والجهاد الإسلامي المديح بسبب قدرتهم على الصمود أمام القوة العسكرية الإسرائيلية الباطشة، ليس هذا فحسب، بل أيضاً للعملية التي أعادت إلى الأذهان حرب أكتوبر عام 1973، وربما من المفارقات أن طوفان الأقصى حدثت في الشهر نفسه، وبعد يوم واحد من ذكرى السادس من أكتوبر/تشرين الأول.
لكن بالنسبة للأنظمة العربية، قد يعتبر البعض أن المقاومة عدوة الأنظمة العربية، ودائماً علاقتها معها على غيرِ وفاقٍ ووئام، وهذا صحيح، لا يمكن إنكاره، لكن هذه المرة باتوا مجبرين على التعامل مع المقاومة بمنطق مختلف وطريقة مغايرة، لاسيما أنها نجحت فيما أخفقت فيه جيوش عربية منذ سنوات، وهو تلقين إسرائيل درساً لن ينسوه، وسيكون له تداعيات غير مسبوقة على المنطقة برمتها خلال الأعوام القادمة.
خلاصة القول: لا ينكر أحد هنا أن عملية طوفان الأقصى حرَّكت الماء الراكد عند العرب، وأعادت ترتيب الأوضاع السياسية والاستراتيجية خلال الأسبوعين الماضيين، فقط بشكل مختلف، وسوف ينعكس هذا الترتيب على الإقليم بالكامل خلال السنوات القادمة، كما أن العملية أيضاً أعادت ترتيب الأشخاص والشعوب والحكومات من جديد، وغيّرت أماكنهم في قلوب وعقول الناس في الوقت نفسه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.