كنت دوماً ما أتساءل في صغري: من أين يستمد أطفال فلسطين تلك الشجاعة؟ كيف يستطيع طفل لا يتجاوز طوله المتر الواحد الوقوف أمام دبابة عملاقة بكل شجاعة؟ كيف يضع عينيه في عيني العدو بكبرياء؟ إنه لا يملك شيئاً سوى حجر صغير بين أصابعه؟!
كبرت أنا، وكبر الطفل… وفهمت أن ذاك الطفل يحمل في قلبه قضية، والقضايا العادلة لا تموت أبداً!
صبيحة يوم السبت، السابع من أكتوبر سنة 2023، استفاق العالم على خبر -كان في الماضي القريب أقرب من الحلم- عملية "طوفان الأقصى". إن المقاومة الفلسطينية تنتفض، وتدافع عن شعب عايش سنوات من الاضطهاد وجرائم الإبادة والتدنيس والسرقة. طوفان أتته عناصر حماس براً وجواً وبحراً، في مشهد سريالي لم يستوعبه الاحتلال لحظتها، كما العالم كله، فالجميع بقي متسمراً أمام شاشات الأخبار مدهوشاً، هل ما يحصل فعلاً حقيقي؟
لم يتوقع أحد ما حدث، خاصة في هذا التوقيت، فحتى أشد المتفائلين في الجانب الفلسطيني وأكثر المتشائمين من الجانب الآخر لم يتخيلوا ما وقع. فلم يكن يدور في خلد سارقي الأرض، أو حتى في أسوأ كوابيسهم أن يفروا في الخلوات مشتتين والخوف يتعمق فيهم ويسيطر عليهم. لم يتصوروا أنهم سيعيشون يوماً تدخل المقاومة فيه إلى قعر بيوتهم التي انتزعوا الفلسطينين منها -التي لطالما ظنوا أنها آمنة- وتأسر العشرات منهم.
فقء بالونة "الجيش الذي لا يقهر"
"الدمار الذي ألحقته إسرائيل بغزة سيعاد بناؤه، لكن الدمار الذي أحدتثه المقاومة في إسرائيل دمار أبدي لا يمكن إعادة بنائه. من يربح المعركة ليس من يهدم البنيان، ولكن يهدمه من يربح الإنسان، والإسرائيلي هُدم للأبد". بهذه الجملة لخص صحفي عربي حجم الدمار الشامل الذي لحق بإسرائيل ومستوطنيها وجيشها. فلن تستطيع إسرائيل نسيان صبيحة السابع من أكتوبر أبداً، وسترث الأجيال جيلاً بعد جيل وصمة العار والرعب التي استشعروها لمرتهم الأولى بهذا الحجم.
لعل أهم نصر جنيناه من طوفان الأقصى هو زرع الخوف في قلب كل محتل إسرائيلي، والدليل أننا رأيناهم يفرون أفواجاً عبر المطارات المكدسة إلى بلدانهم الأصلية، ففرق كبير بين من يشهر جواز سفره ليفر من "بلده"، وبين من يتمنى الشهادة فداءً لبلده. لقد تجرعت إسرائيل على حين غرة شعور الألم، وسقيت من نفس الكأس الذي سقت منه مواطنين ذنبهم الوحيد أن بهم نخوة ويدافعون بها عن أرضهم.
"طوفان الأقصى".. انتصار عظيم
في دردشة، تقول صديقتي: "لم يكن على حماس قصف إسرائيل، فقد جنت على نفسها. وتضيف: ماذا استفادت الآن؟ هل تحررت غزة؟ لقد مات الأطفال والأبرياء وهدمت البيوت على رؤوسهم وحسب!".
سؤال مشروع، أليس كذلك؟ وربما بالفعل دار في خلد كل منا، لكن السؤال الذي أراه أصحّ هو: لماذا شنت إسرائيل هجومها على غزة بهذا العنف؟ ولما تضامنت معها الدول الغربية بهذه القوة؟ لماذا النظام الدولي غضب من انتفاضة الغزاويين، لدرجة أنه سارع بالتعبئة والتجييش إعلامياً ومالياً وعسكرياً؟ لماذا أسقط عن وجهه قناع "الإنسانية" و"نشر السلام"، وأصبح يحرض علناً على إبادة سكان غزة؟ ولماذا سارعت منصات التواصل الكبرى كفيسبوك وإنستغرام إلى حظر أي منشور عن فلسطين، علماً أنها دعمت منشورات التضامن مع "أوكرانيا"؟ كل هذا يطرح سؤالاً آخر: قبل وجود المقاومة هل كانت إسرائيل توزع الورد على الفلسطينيين؟
الجواب وبكل بساطة، كانت تقتلهم وتذبحهم، بداية من دير ياسين إلى اليوم، ما حدث في طوفان الأقصى دمر ما تحاول هذه الدول مجتمعة بناءه على مدار سنوات طوال. فقد اعتدنا دوماً أن الدماء والبكاء والألم والضعف للفلسطينيين والمسلمين فقط، وبأن القوة والسلاح والذكاء للإسرائيليين والغرب فحسب.
بينما كرّس إعلامهم من جرائد وبرامج تلفزيونية وسينما صورة نمطية عن المسلمين. أقنعتهم أننا ضعفاء ومهينون. وقد صعقوا حين فهموا أن لفلسطين قوة، فهرعوا للعنف والحشد، إذ لا يقبلون أن يكون للفلسطينين مقاومة تدافع عن إنسانيتهم وعن حقهم في الحياة، عن طريق معداتها البسيطة مقارنة بمعدات قوات الاحتلال وحلفائها، وبعدد عناصر مقاومتها القليلة مقارنة بجيوشهم.
لكي لا ننسى جرائم الاحتلال
وفي سيناريو إجرامي يتكرر بشكل أبشع، استشهد أمس أكثر من 500 فلسطيني خلال قصف للاحتلال الإسرائيلي، استهدف ساحة "المستشفى الأهلي العربي (المعمداني)" في غزة، ولليوم الثاني عشر تواصل إسرائيل شن غارات مكثفة على المنازل والمنشآت المدنية بغزة، وقطع إمدادات المياه والكهرباء والغذاء والأدوية عن القطاع، كل هذا مع دعم غربي وصمت عربي.
لكن لا غرابة في صمت العالم، ففي عام 2000، في مطلع انتفاضة الأقصى الثانية، على مرأى ومسمع العالم أيضاً وأمام الكاميرات، طفل لم يتجاوز الثانية عشرة، ترتعد كل فرائصه، يحتمي بظهر والده من وابل الرصاص الإسرائيلي الذي يتقاطر عليهم من كل اتجاه، والأب يصرخ مستغيثاً، لكنّ مدعي "الإنسانية" ما كانوا يعرفون إجابة سوى بالرصاص.
أمام أنظار المجتمع الدولي والعالم أجمع، وعلى بث مباشر، اخترقت رصاصة الغدر جسد الصغير محمد الدرة، واستشهد. صورة لم تمحَ من ذاكرتنا أبداً، وتوالت ومنذ ذلك الحين إلى اليوم، صور جثت الأطفال الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي، دون أية محاسبة دولية ودون تغطية إعلامية دولية مهنية.
يقتل الاحتلال الإسرائيلي بصواريخه مئات الأطفال والحيوات، منهم من كان حلمه أن يكون معلماً يدرس الأطفال ليعلمهم ما معنى الوطن، ومنهم من كانت بخصلات شعرها المخملية تلعب مع قريناتها على أنها دكتورة تسعفها، فتبتسم حين تضمد جروحها. وكان من بينهم أيضاً أم مرابطة تطهو المقلوبة والكبة وتفرقها على الجيران، بينما كانت هناك عجوز أخرى تجلس على كرسي متحرك تحكي لأحفادها قصصاً عن الشجاعة والرجولة وشجر الزيتون.
بعد كل ذلك الجرم هل سيحاسب العالم إسرائيل على جرائمها؟! ببساطة، لا. لذا علينا أن نتحرك نحن.
أنت قضية إسرائيل
اسمح لي أن أخبرك أن الاحتلال الاسرئيلي لا حدود له ولا لإرهابه ولا لما سماه "دولة"، فلم يحدد بموجب أية اتفاقية أو قانون حدود توسعه. فليس من الغريب إن سمعنا أنه توسع في الأردن أو سوريا أو أراد التوغل في مصر. إن الاحتلال الإسرائيلي لن يقتصر إجرامه و مطامعه على احتلال غزة وفقط، فمخططاته هي التوسع في المنطقة كلها، والسيطرة عليها اقتصادياً، وإعلامياً ولم لا عسكرياً؟ وقد لخص الصحفي "محمد الرماش" في فيديو له حين قال: "سواء أكانت فلسطين قضيتك أم لا، الأكيد هو أنك أنتَ وأنتِ وأنا وبلداننا جميعا قضية إسرائيل".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.