عاطفياً.. لا يسعني في مثل هذا المقام، وأمام هذا الحدث الجلل، "طوفان الأقصى" وتبعاته، إلا أن أشعر بمزيج من الفخر والاعتزاز، منبعه تجذر وتأصل النضال والمقاومة في الجين العربي عامة والفلسطيني خاصة، يشوبه قدر غير قليل من التأسي والعجز أمام حالة الانتقام المُبيد وسياسة الحرق الكلي التي تمارسها الترسانة العسكرية للكيان الصهيوني المحتل لقطاع غزة وأهله العزل، من كل شيء، حتى من دعم واصطفاف عربي حقيقي، خصوصاً على مستوى الأنظمة العربية، بل منها من أدانت خارجيتها في بيان رسمي هجوم السابع من أكتوبر على يد كتائب القسام، حتى كتابة كلماتي التي لا تقدم ولا تؤخر سوى التنفيس عني بعض الشيء، والدعم القلبي للفلسطينيين في قضيتهم العادلة.
لم تُفتح أية ممرات آمنة لإدخال مساعدات إنسانية وطبية ضرورية للقطاع المقصوف بشكل هستيري من قبل الطيران الإسرائيلي، ويأتي رد الفعل الانتقامي على قدر ضربة المقاومة الفلسطينية الموجعة المُذلة لنظامه العسكري الاستخباراتي التجسسي المتقدم تكنولوجياً، فحولت المحتل الغاصب إلى وحش كاسر جريح لا يبغي سوى الدم، المزيد من دم الفلسطينيين حتى يبرد غِله وحنقه، ولن يبرد لأنه في الأصل قام على الدم ويتغذى على الدم.
بالنظر إلى "طوفان الأقصى" لا يستطيع ذو عقل ومروءة وقدر من الانصاف أن ينزع عنها الفلسطينية الكلية، وبالأحرى العربية، إن كنا لا نزال كأمة عربية نعتبر فلسطين قضيتنا الجامعة، التي يجب الذود عنها بالروح والدم، ففكرة أن طوفان الأقصى، ومن ثم حماس، لا تمثل الفلسطينيين وقضيتهم، فهي محاولات رخيصة للنخر في معنويات المقاومة وقيمة تضحياتهم الثمينة، وإجحاف متعمد لنصرهم العسكري الاستخباراتي على الكيان الصهيوني، فما الشجاعة والمقاومة والتضحية والفداء إلا سمات وُجدت حقاً في أسلافهم، في ثقافتهم، في أرواحهم، ليست وليدة اللحظة، وستستمر في أبنائهم وأحفاد أحفادهم، فكل مقاومة من وقت النكبة عام 48 حتى الآن هي جزء لا يتجزأ من النضال الفلسطيني المسلح، دفاعاً عن أرض وعرض ومقدسات، أو كما قال المفكر المصري الرائع عبد الوهاب المسيري في لقاءٍ تلفزيوني له: "كل من يظن أن الدفاع عن فلسطين وشعبها ضد الكيان المحتل بنزع سلاح المقاومة هو واهم"، ومن هنا فإن المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب القسام تمثل كل فلسطيني متشبث بأرضه، فهذه هي غزة تهتف باسم المقاومة من تحت الأنقاض والقصف المسعور، وهذا هو الضيف وقد هتفت سابقاً له كل فلسطين، واليوم تتغنى به رجلاً كألفٍ أو يزيد، في زمن عز فيه الرجال.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فبديهياً جداً أن يتنامى إلى العقل المقارنة بين الحالة الأوكرانية والفلسطينية، والتي تقودنا بالضرورة إلى التساؤل عن الدِّية المادية والمعنوية والأخلاقية للفلسطيني والأوكراني وحتى الإسرائيلي، فمنذ الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي يدنو من شهره العشرين، قُدم لأوكرانيا حكومة وشعباً- وربما هذا حق إنساني أصيل لهم- دعم مادي ومعنوي وعسكري وإعلامي، سواء من الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي أو حتى الأمم المتحدة، وهو ما لم يُقدّم على مدار 75 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي للشعب الفلسطيني.
فكل دعم للفلسطينيين قائم على الفُتتات والتقطير المُحاصَر، وليس على مبدأ الواجب الإنساني تجاههم، وحقهم الأصيل في الحياة بأرضهم وأرض أجدادهم، وبالتالي كان التطور الطبيعي للأحداث وللنفسية الإسرائيلية التعامل معهم في قصفهم إياهم كحيوانات بشرية تستحق الذبح والإبادة، جنباً إلى جنب مع البروباغندا الصهيونية الغربية، عن ذبح الأطفال والشيوخ واغتصاب النساء من قبل المقاومة الفلسطينية، تكريساً للتأريخ المزمن لليهودي كضحية، ثم يأتي رئيس أكبر دولة وأعظم جيش وأقوى استخبارات ليجتر تلك الأخبار دون دليل، فقط حتى لا يفوته دوره في الترويج والتسويغ الأخلاقي لما يحدث وسيحدث لغزة وأهلها.
لا أخفيكم سراً أنني كثيراً ما اعتقدت في داخلي أن الرئيس الأوكراني مهرج يجيد التمثيل فحسب، ولا يستطيع أن يقود معركة حقيقية أو مقاومة فعلية ضد الغزو الروسي لبلاده من تلقاء نفسه، وأن الدعم منقطع النظير له هو من نفخ في صورته وصلب طوله وهامته أمام بوتين، وكان من الممكن جداً أن أحتفظ بهذا الرأي لنفسي، بخاصة أنه لا يتسق وتدفق الموج المتعاطف مع الأوكرانيين، وهذا حقهم بالمناسبة من كل حر حقيقي وليس مُتكلفاً يتصنع الحرية والإنسانية، ولكن لأن النهر قد جرت فيه مياه كثيرة، فاتضح أن بوتين رغم حنقنا عليه لِما ارتكبه على الأقل بحق السوريين، لكنه أثبت أنه أكثر اتساقاً حين يقول مؤخراً: "إذا أحسّ الرجال- نعم قال الرجال- أنهم يجب أن يتقاتلوا فيما بينهم، فلا بد أن ينحّوا النساء والأطفال والشيوخ جانباً".
بل وصل ببوتين، الذي حاصرت قواته باخموت الأوكرانيه مدة ثلاثة أشهر، أن يطالب برفع الحصار عن غزة، وتوصيل الإمدادات الإنسانية العاجلة لها، في حين المهرج الأوكراني يقتطع الأحداث من سياقها التاريخي قائلاً: "إنه يدعم إسرائيل في حقها في الدفاع عن نفسها"، فهل هذا كله مرده إلى أن عدو عدوي صديقي، أي أمريكا والغرب أعداء بوتين والقضية الفلسطينية، وبالتالي يدعم بوتين المقاومة الفلسطينية، أم أيضاً تفاوت دِيتنا كعرب وأوكرانيين وإسرائيليين في الوعي الجمعي للأمريكان والأوروبيين؟
قال أحد المحسوبين على المكتب السياسي لحركة حماس: "إن المقاومة أعدت خطة دفاعية عن غزة في حال حاول العدو الإسرائيلي اجتياحها برياً، ستفاجئ العدو أكثر مما فاجأته الخطة الهجومية في السابع من أكتوبر"، سواء أكان التصريح من قبيل الحرب النفسية والضغط على العدو وتشتيته، وكلها أمور محبذة، لكن في الحقيقة تنتظر المقاومة الفلسطينية تحديات جمة، من التعاضد والثبات والدفاع المستميت عن غزة في حال اجتاحتها إسرائيل بقوة مشاة مدعومة بغطاء جوي، وأيضاً ينتظر القيادة العسكرية والسياسية سيل من العصف الذهني واستغلال مخزون الخبرات السابقة للتعامل مع الأوضاع الراهنة، فالجميع يكاد يُجمع أن ما قبل طوفان الأقصى ليس كما بعده، وفي كل الأحوال سنظل متمسكين بالقضية الفلسطينية كأعدل قضية على وجه الأرض الآن وغداً، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.