هذه هي الحقيقة في إقليم كتالونيا؛ كرة القدم من السبل المشروعة لإظهار القضايا السياسية عن طريق أشخاص يُسجلون الأهداف على هيئة مواقف بارزة، الشعب الكتالوني كان يُريد دائماً أشخاصاً يُظهرون من هو أكثر مما يظهرون هُم في المشهد.
وكان من بين هذه المواقف، سخطهم الشديد على النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي بشأن المظاهرات التي حدثت في عام 2017 ضد الحكومة الإسبانية في الاستفتاء الخاص باستقلال إقليم كتالونيا عن إسبانيا.
قالوا إنهم انتظروا ليونيل ميسي لكي يتحدث، لكي يُعبر عنهم، ولمَ لا! صحيح وُلد في الأرجنتين لكنه تربى معهم، بالإضافة لكون لاعب كرة القدم هو إنسان في الأخير؛ لديه مشاعر، ويتأثر بالظروف المحيطة، ويرى بعينه ما لا يُمكن إنكاره، ويتعايش مع المجتمع بجميع طبقاته.
في كتالونيا، رسخوا مفهوماً يقوم على البحث عن التحرر عن طريق فريق كرة القدم؛ الفريق الذي كان يذهب في جولات باحثاً عن معونات لنُصرة المدينة بعد القصف الذي تعرضت له على يد الحكومة الإسبانية.
بعد أن كان نادي برشلونة يمتلك القليل من الأنصار، تزايدت شعبيته بشكل ملحوظ وتمكن من امتلاك ملعب بتعداد قليل، ثم أصبح يمتلك ملعب مساحته شاسعة، ثم أصبح يمتلك عقوداً للرعاية، ثم تحول إلى فريق يستطيع العودة للمنافسة بعد التهميش الكبير الذي حدث له بفِعل الحرب الأهلية.
كل هذه الأمور كانت كفيلة بأن تمنح الشعب الكتالوني مُتنفساً؛ يشعرون من نافذته بأن فريقهم هُو الممثل الرسمي لهم، والدفاع الحقيقي عنهم، والوطن الذي إذا هُجّروا من أوطانهم لجأوا إليه.
نظرة أخرى لكرة القدم
من أكثر الشعوب حالياً دعماً ومؤازرة للقضية الفلسطينية في أوروبا؛ هو الشعب الكتالوني الذي يعرف حقيقة الاحتلال والمقاومة!
هذا الشعب الكتالوني، سمع أصوات الطائرات الحربية، وتعايش مع القنابل المُدوية، ووجد في بيته الأنقاض والأشلاء، ولا يتشارك مع الشعب الفلسطيني طعم الألم فقط، بل يتشارك معه المقاومة حيث استطاع كسر حواجز مهولة من الصمت والتهميش، لم يستسلم لخزلان العالم فأسس لنفسه مُحامياً للدفاع عنه بشكل دائم؛ هو نادي برشلونة.
إقليم كتالونيا؛ الإقليم الذي ينتمي إليه نادي برشلونة تاريخياً، هو الإقليم الوحيد الذي يمتلك مواقف رسمية ضد إسرائيل، فخلال عام 2022 أصبح البرلمان الكتالوني أول برلمان في القارة الأوروبية يعترف علانية بأن إسرائيل ترتكب جريمة الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني.
وهذا ليس غريباً على شعب مقاوم، كان من بين الشعوب القليلة التي استطاعت أن تمنح نفسها حق النضال والوقوف جنباً إلى جنب، وربما لأن ما رأوه في أزمنة مضت كان كافياً لإنشاء هذه الحماسة الغريبة في جلودهم.
الشعب الكتالوني، وعن طريق آدا كولاو، عمدة مدينة برشلونة؛ في منتصف فبراير/شباط الماضي، أعلن عن وقف اتفاقية التوأمة مع مدينة تل أبيب ومقاطعة إسرائيل، بسبب نظام الفصل العنصري الذي تمارسه ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة.
تعرف الشعوب التي تتجرع الألم بعضها البعض، والشعب الكتالوني ورغم أنه لا يملك أي حدود جغرافية مع فلسطين يشعر بها، إلا أنه يشعر بالفلسطينيين، فهو أحد أبرز الأقاليم التي تمكنت من استغلال كل الموارد المتاحة للتحرر من الضغوطات الكبيرة في عصور الظلام السابقة؛ الإقليم الوحيد الذي زج كرة القدم في قضاياه وجعل فريقه ينتمي إليه بشكل رسمي ويعتبره محامي الدفاع الأول عنه.
قالوا في كتالونيا، بعد أن وصل يوهان كرويف إلى النادي في عام 1974 وبعد الفوز التاريخي للفريق في الكلاسيكو على نادي ريال مدريد بخماسية نظيفة، إن الهولندي يوهان كرويف قدم للشعب الكتالوني خدمات لم يُقدمها أبرز السياسيين منذ نشأة المقاومة في الإقليم!
كرة القدم كطريقة للمقاومة
ليس لفلسطين نادي برشلونة ولا كرويف يسجل لهم في الملعب فيشعرهم أنه لديهم من يسحق الخصم من أجلهم أمام الجميع حتى ولا شعورياً ولدقائق فقط، لكن لديهم اليوم أحمد حسن كوكا، الذي صاغ أفضل خطاب في تاريخ الرياضيين العرب بخصوص القضية الفلسطينية.
كوكا، استطاع أن يسرد تفاصيل غائبة عن المشهد العالمي الذي استمع إلى الرواية المُزورة، ولم يكتفِ المصري فقط بإظهار دعمه، بل فاق الدعم إلى أن وصل إلى حد الشرح والتفصيل.
وتفاعل الملايين مع تغريدة اللاعب المصري، والتي وصل المتفاعلون معها لقرابة 6 ملايين شخص، في ظل قلق بعض اللاعبين من فرض عقوبات عليهم بسبب التضامن مع القضية الفلسطينية. ويُعد تضامن كوكا هو الأقوى بين اللاعبين العرب والمسلمين المحترفين في الدوريات الأوروبية.
هذه هي فائدة تواجد أشخاص مثقفين في أي مجال؛ لأنهم إذا امتلكوا الثقافة والمعرفة قدموا لشعوبهم خدمات عظيمة، واستثمروا الشهرة والتأثير في أشياء تعود عليهم بالنفع على المدى البعيد؛ وهي حُب الناس الكبير لهم.
وهذا ليس شيئاً جديداً في كرة القدم، ففي كتالونيا أيضاً، كان أوليغر بريساس رينوم ابن الاقليم ولاعباً، كان داعماً للقضية الفلسطينية كذلك، إذ رأى أن الاحتلال الاسرئيلي يغتصب فلسطين، ورفض بشكل قاطع أن يوافق على أي عقد مع أية شركة تابعة لهذا الكيان الاستيطاني. وشارك بدعم حملة مقاطعة شركة بوما.
لذلك لا غرابة أن نجد المظاهرات في كتالونيا قائمة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويطلبون من مجلس المدينة والحكومة أن يمنعوا بشكل قاطع أي تعامل مع هذا الكيان المُحتل، سواء كان في التعامل مصالح اقتصادية أو حياتية.
ولا يتوقف الدعم على كتالونيا فقط، تجد جماهير سيلتيك الإسكتلندي تدعم القضية الفلسطينية، مهما وُقِعت عليها الغرامات، ويدعم النادي فِكر جمهوره ولا يُعاتبهم ولا يعاقبهم على هذه المساندات الدائمة للشعب الفلسطيني.
كل هذا الدعم حتى وإن لم يقابل قوة دعم الحكومات والدول الأوروبية لإسرائيل، إلا أنه يثبت شيئاً شديد الأهمية، أن المقاومة بكل أشكالها فعل فطري، وموقف طبيعي للإنسان في هذه الحياة، تنشأ في البلاد التي ذاقت الظُلم؛ من هنا ينبغي أن ينطلق التأكيد على منطقية المقاومة الفلسطينية للوضع القائم، فبالمقاومة تستطيع الشعوب المقهورة أن تفرض رأيها مهما كانت حملات التكتيم مُنتشرة، فالأصوات المسموعة حتى وإن ساد العمى.
وهذا ما يفسر لما تنتظر بعض الشعوب الحرة الكثير من بعض لاعبين كرة القدم، فنرى كيف رأت كتالونيا في يوهان كرويف، ما رأته الأرجنتين في دييجو أرماندو مارادونا؛ لاعب بزي بطل قومي، لم يختر أن يرتدي هذا الزي تحديداً، وإنما أرادوا له أن يكون كذلك، وفصّلوا له الزي على مقاسهم وألبسوه إياه كيفما يحلو لهم.
المقاومة هي السبيل الوحيد لكل من يبحث عن التحرر، ولاعبو كرة القدم في كتالونيا كان يعرفون ما تعنيه المشاعر الكبيرة لهؤلاء القوم، فوق الانتصارات الكروية، والتي لا تُساوي فرحتهم الكبيرة في الجانب الإنساني والدعم الكامل لمن يُعانون في هذه الأرض.
وبالتالي، فإن كل صوت يدعم القضية الفلسطينية، ويُعرف الناس بها؛ هو في الأصل صوت يحتاج إلى أن يُسمع على نطاق أوسع، كونه يُظهر للناس حقائق يُحاول الطرف الإسرائيلي طمسها مهما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وفي مثل هذه الأوقات؛ فإن الدعم الذي يأتي ممن وُهبوا الكثير من الشهرة والتأثير، هو بمثابة إحياء لقضايا يصرخ أهلها من أجل أن يُعرّفوا العالم بحقيقة من هُم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.