طفل صغير يحتمي بساقي أبيه، ويحتمي كلاهما ببرميل أسمنتي، وسط وابل ثائر من الغبار وتبادل عنيف لإطلاق النار، رقد الصغير على أثره فوق الساقين ذاتهما اللتين احتمى بهما، توقف صراخه وسقط شهيداً دون حراك.
كان هذا المشهد يملأ شاشات التلفاز بالمنازل في عصر اليوم الأخير من شهر سبتمبر عام 2000؛ الوقت الذي لا يغيب عن بالي ومواليد التسعينيات جميعاً منذ اللحظة التي تابعنا فيها المشهد لأول مرة بعد أن التقطه المصور الفرنسي شارل إندرلان، وكان اسم الطفل الأكثر ترديداً في كل مكان هو "محمد جمال الدرة".
لم أكن قد أتممت من العمر أربعة أعوام بعد، وأنا على ذلك أذكر كل تفاصيل هذا الحدث وأذكر مدى تأثيره بأعماقي؛ جسدي الصغير المقشعر البارد، ويداي المرتجفتان، وفمي، وعيناي المفتوحتان على اتساعهما من شدة الدهشة، كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي يحول فيها هول الصدمة دون بكائي، كنت أصغر من كل هذا، ولكن مثلي مثل كل أبناء جيلي يومها، ومثل بطل المشهد نفسه، كنا جميعاً صغاراً، ولم يتلطف بصغرنا هؤلاء الذين يملكون قلوباً من حجر لا تعرف الرحمة طريقها!
القسوة ضد الأطفال بالتحديد ليست أمراً جديداً على الاحتلال الإسرئيلي، بل وأشعر أحياناً أنها أمرٌ محبّب يتلذذ به مرتكبوه، فدائماً ما تستهدف المقاومة جنود الاحتلال أو رجاله فيرد جيش الاحتلال باستهداف أطفالهم.
فعلى ما يبدو أن العنف ضد الأطفال مترسخ في سياستهم منذ وجدوا، فها أنا ذا أدون مقالي هذا بعد أسبوع من بدء "طوفان الأقصى" وحصيلة الشهداء الفلسطينيين تجاوزت 2750 شهيداً من بينهم 700 طفل، وها هو والد محمد الدرة مجدداً بعد 23 عاماً يضع ابنيه الاثنين نائل وإياد بالأمس، إلى جانب أخيهما و9 آخرين من أبناء عائلته في القصف المستمر على قطاع غزة.
وهذا يؤكد أنهم مستمرون في استخدام السياسة الترويعية نفسها منذ بداية الاحتلال، والذي بدأ جيلي يدركه بولادته بمشهد قتل محمد الدرة، وليبدأ بث الحزن والهلع في نفوسنا صغاراً، ولن تنتهي اليوم مادام المجتمع الدولي مصرّاً على الكَيل بمكيالين.
يكيل العالم اليوم بمكيال مغاير، وفي مقدمته فرنسا التي بثت قنواتها مقطع مقتل الدرة قبل الجميع فيما مضى، يتهم العالم اليوم الضحية، يتهم الفلسطينيين بالإرهاب ضد الأطفال دون دليل أو سند، ويغمض عينيه عن جرائم الصهاينة المتكررة والمصورة على مر الزمن في حق الأطفال والكبار؛ بالأمس كان "الدرة" واليوم كفن كتب عليه بالقهر "أشلاء محمد وكِندة"!
يصرف العالم وجهه عن جرائم الاحتلال في حق أطفال فلسطين، رغم ما يتم توثيقه بصور حية، وفي المقابل ينتفض من أجل أخبار كاذبة عن إيذاء أطفال من الجانب الإسرائيلي.
بينما في أوكرانيا لا يتوانى عن الدعم بكل ما أوتي من قوى ويتسابق من أجل توقيع أقسى العقوبات الاقتصادية في حق روسيا؛ بينما يغض الطرف عن حق الفلسطينيين في حياة طبيعية خالية من حواجز التفتيش والقتل العشوائي المتعمد والاعتداء على المقدسات والإهانات المتلاحقة، والقصف، والحصار.
ربما لإسرائيل في هذه السياسة المريضة رؤيةٌ خسيسة بأن إرهاب الأطفال وترويعهم صغاراً؛ يُنشئهم على أن جندي الاحتلال الإسرائيلي قاسٍ ولا يمكن التصدي له، وأنهم أصحاب "الجيش الذي لا يقهر".
لكنهم لم يدركو أبداً أن سيكولوجية الطفل السويّ في بلادنا العربية التي تختلف كل الاختلاف عن سيكولوجية طفلهم الذي يترعرع على أرض منهوبة.
فعلى سبيل المثال، الطفل المصري الذي كنته أنا ولا يسعني أن أحكي تجربة غيره، الطفل الذي عبر أبوه وعمه قناة السويس في السادس من أكتوبر عام 1973، ليلَقِّن الاحتلال درساً لا ينساه حتى بعد مرور نصف قرن، هذا الطفل لا يعرف عدواناً لا يمكن التصدي له، ولا يفهم معنى لوجود صعاب لا تقهر أو عوائق لا تكسر.
فمثل هذه المشاهد القاسية، وإن أثارت في نفسه لحظياً دفقة من الهلع، فإنها تنمي لديه حميّة يصعب على عدوه تصورها ولا يقدِر على الصمود أمامها، لأنها مزيج من حمية عروبته للثأر لحقه وعِرضه وإخوته ووطنه وأرضه، وحمية دينه -على اختلافه- للسلام والتسامح والمحبة.
كان "الدرة" هو أول محطة تعرفنا فيها أنا وأبناء جيلي تقريباً على القضية الفلسطينية، ذهبتُ إلى روضة الأطفال في اليوم التالي لأجد أعلام فلسطين أثناء طابور الصباح تملأ فناء المدرسة يلوح بها زملائي، والشرطة المدرسية انقسمت إلى فريقين بعضهم يحمل على أكتافه شالاً أعجبتني نقوشه، والبعض الآخر قد علّق شارة جديدة بجانب شارة علم مصر؛ حين سألت أبي عنهما وقتما جاء لاستلامي من المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي أخبرني أن الشال هو الكوفية الفلسطينية، وأن الشارة تمثل المسجد الأقصى.
كل هذا بدا لي عادياً حينها وإن كان بعضه غير مفهوم، ما فاق العادي وما كان جد مبهراً هو أصوات زملائنا من الكبار في وقت استراحتهم مجتمعة في الفناء تهز جدران بنايات المدرسة هزاً يكاد يقلعها من أماكنها، تردد "بالروح بالدم نفديكِ يا فلسطين" وتردد بين الهتاف والآخر اسم صديق جيلنا الشهيد "محمد الدرة" في غير انقطاع.
كان مقطع استشهاد الدرة حديث وسائل الإعلام المتمثلة في القناتين المصريتين الأولى والثانية لمدة لا تقل عن شهرين، وفي أول جمعة عقب وقوع هذا الحدث المأساوي كانت سيارات الهلال الأحمر تجوب الطرقات منادية بجمع التبرعات لدعم انتفاضة إخوتنا المقاومين في فلسطين. وكان آباؤنا يدفعوننا بالأموال -متعمدين- لنركض سريعاً لتسليمها لهم فرحين أننا بهذا نساعد إخوتنا في الثأر للدرة واسترداد حقهم في أرضهم وحياتهم.
على مر السنين كان موقف مصر وحكومتها وجيشها وشعبها من القضية الفلسطينية داعماً ثابتاً لا يتغير، فمصر لم تتوانَ أبداً عن نصرة هذه القضية منذ يومها الأول، وكلي يقين أنها لن تفعل مطلقاً.
فلسطين هي جزء أصيل داخل نفوس الشعب المصري، وجزء يفخر المصريون باستقراره في قلوبهم، نفخر بصموده، ونعتبر أمنه من أمننا، ونقتسم استقراره وسلامه إذا ما كان مستقراً سالماً.
نحن معكم، ندعمكم بكل ما نقدر عليه، ستمر الأيام ونكون إلى جانبكم في وجه الاحتلال كتفاً إلى جوار كتف كما حدث سابقاً!
نحن معكم لأننا جيل كبر وكبرت داخله هذه القضية، لتكون دائماً أغلى وأشرف ما في حياته، ولأن المصريين دائماً قلوبهم ترفض الباطل وتقف مع الحرية، ويمسح صدأ الحياة عن ظاهرها كلُ حادث جلل ليُظهر النفوس التي لم تلوثها السنون وبقيت ملأى بالخير والنخوة والحمية للحق.
يا أهل في فلسطين، نشعر بكم ونعلم مثلكم أن الأرض كالبشر تحب وتكره، وتحارب مع أبنائها، وأرضكم معكم تحبكم وتحب وقع أقدامكم على سطحها، وتتمسك بها ثابتة فوقها، كل ما على أرضكم يحبكم، حتى إنني أكاد أرى شجر الزيتون في أرضكم يأبى أن يستظل به جنود الاحتلال.
وقد فعلتم ما تهتز له القوى العظمى، فما بالكم بإسرائيل؟! الدولة الوهمية المجبولة على الخوف، يستهدف رجالكم جنودها فتستهدف أطفالكم، صغاركم، وأضعف من فيكم، رغم عتادهم!
لكن لا حرب يحسمها العتاد وحده، إنما تحسم الحروب باليقين، ولا أكثر منه في قلوبكم، ولا أقوى منكم فيه أحد، فإننا عرب ذوو جذور ثابتة وأصول عريقة لا ننفضّ عن جيوشنا ومحاربينا إذا ما طالنا من حربهم ضرر ولو كان جسيماً.
أما هم فالفرار لا يليق إلا بهم، صورهم وهم يملؤون مطار بن غوريون ذكرتنا بالمتشبثين منذ زمن ليس ببعيد بالطائرات في كابول، هم لا يحاربون في سبيل حلم أو حق أو وطن أو أرض يفدونها بأرواحهم، بل يتناوشون ويسخطون على جيشهم ويتذمرون من حكومتهم وحياتهم كلها إذا ما تأخروا في انتصارهم أو عز عليهم ثمنه!
لن أدعوكم إلى الصمود، فمن أنا لأدعوكم أنتم له وقد ضربتم فيه خير مثل، لكن أود أن أبلغكم فقط أن كل أطفال الأمس معكم دائماً وأبداً، وسنلتقي يوماً ما.
"أدري بأنك لا تخاف الطفل حياً.. إنما أدعوك صدقاً؛ أن تخاف من الصغار الميتين" تميم البرغوثي
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.