كنت قد اعتزلت الكتابة منذ فترة، ولم أجد أي موضوع يستهويني أو يدفعني لأكتب، خاصة في خضم تيارات الحياة وروتينها الخانق الذي لطالما أقسمت أنه لن يأسرني، ولكنْ للواقع رأي آخر؛ إذ بتّ جزءاً منه الآن، حتى لدرجة أني قد ظننت أنه لن يكون هناك موضوع قد يدفعني مجدداً للتأمل إلى أن عادت القضية الفلسطينية مجدداً لتجعلني أجتاح كياني وأنفض عن روحي غبار الأيام لأمسك ذاتي وأحكم قبضتي عليها.
في كل مرة أحاول فيها النظر إلى الإنسانية وأدقق في التاريخ، أجد أن الحروب والنزاع كانت طبعاً ملازماً للبشر، وربما ولفترة ما ومع هذه النظرة النسبية التي أصبحت أحملها، ظننت أن القضية الفلسطينية هي نزاع أزلي، لأني اعتقدت أن الحديث عنها، وكل السنوات التي حملت بين طياتها من نكبات ونكسات باتت تحتم علينا الاقتناع بأن الحل هو الاستسلام والتقوقع على المحيط المحدود جغرافياً وتاريخياً، والتعايش مع فكرة أنه ما من حل غير أن نصبح جزءاً من محرك العالم الإمبريالي، الذي يهيمن على كل شيء في حياتنا، فيجعلنا بلا معنى في ذواتنا، نستيقظ صباحاً، نذهب للعمل لنعود مساء نشاهد الأخبار لنرى إحصائيات القتلى ونستسيغ الأمر، لنغيب مع الوقت، ونقتنع بأنهم ليسوا أشخاصاً بل مجرد أرقام كالبورصة تماماً.
ولهذا أدرك اليوم أكثر من أي يوم مضى أنني اليوم لا أتحدث عن القضية الفلسطينية؛ لأنني عربية مسلمة البتة، ولكنني أتحدث عنها لأنني ما زلت أحمل داخلي إيماناً عميقاً بأنها قضية الأحرار، وأجد قول تشي جيفارا عن الثورة يليق بها، فهي "قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن". نحن نقف ونساند القضية الفلسطينية؛ لا لأننا نتمي لدين أو لعرق أو انتماء معين، بل لأننا بشر؛ إذ يكفي لأي فرد منا ما زال يحمل بعضاً من الإنسانية ليقر بأن إسرائيل كيان غاشم.
في كل مرة أحاول فيها التمعن وإيجاد سبب دعمي وإيماني المطلق لحق هذه القضية أشعر بالاعتزاز والامتنان بأنني تونسية، وأعتقد أن في كل البلاد العربية نفس الشيء، إذ تعلمنا منذ الطفولة مروراً بجميع مقاعد الدراسة بأن فلسطين هي الوجه اللصيق لتونس، وأننا نحبها ونشعر بالدماء في عروقنا عند ذكرها؛ بل وحتى عندما نعبر عن الحرية أو الرغبة في التغيير نحمل علم فلسطين جنباً إلى جنب مع علم بلادنا.
ما أريد أن أقوله إن إسرائيل لا تواجه المواطن الفلسطيني وحده، بل ولا حتى المواطن العربي، إنها تواجه كل شخص يحمل داخله العدل السلام والإنسانية وكل شخص لا يدعم فلسطين فهو ليس حراً ولا يمت لمعاني الإنسانية، وهذا ليس تعصباً، بالعكس فمن يقف مع المظلومين هو من يقف مع السلام، ولذلك يجب أن يكون صوته عالياً وكلماته واضحة، وأومن أن كل شخص يستحق دائماً فرصة للحياة، وأن يراجع نفسه، لكنني لا يمكن اليوم ومع ما يحدث في فلسطين أن أقف دون موقف.
ما يحز في نفسي أن القدس من المفروض أن تكون عاصمة السلام لمرور كل الأنبياء فيها، والتقاء جميع الديانات عندها، ورغم ذلك، قال شاعرها الأشهر: "سلام لأرض خلقت للسلام.. وما رأت يوماً سلاماً"، واصفاً حالها في كلمات قصيرة.
لقد أصبحت فلسطين، ونحن مكبلون منهكون من مشاهد القتل واغتصاب الأرض، أصبحنا نحمل أوطاننا داخلنا بثقل همومها؛ خوفاً من احتلالها، إن القضية الفلسطينية ليست في جغرافيتها فقط، بل في رمزيتها، فهي البوصلة التي تشير إلى اليمن الذي لم يعد سعيداً، وإلى سوريا التي غاب مجدها، وبابل التي لا أعرف السبيل إلى أبوابها.
"أَلا أَيُّها الظَّالمُ المستبدُّ، حَبيبُ الظَّلامِ عَدوُّ الحيَاهْ.. ففي الأُفُق الرَّحْبِ هولُ الظَّلامِ، وقصفُ الرُّعُودِ وعَصْفُ الرَّياحْ"
أبو القاسم الشابي
أعلم جيداً أن كلماتي لن توقف الدماء الزكية، وأعلم أن أطفال لا أعلم عددها سيقتلون جراء الحرب، وأشجار الزيتون سوف تسحقها القدم الهمجية والبيوت التي بُنيت بعزم سوف تهشم والسماء سوف تمطر قنابل على عائلات لا لم ألتقِها يوماً، رغم ذلك، ما زلنا نؤمن بأنه سيعم السلام والمحبه أرضنا، إذ نؤمن بأننا سوف نشيد الوطن من جديد، وسوف ننجب الأطفال من جديد، وسوف ينمو الزيتون؛ لأن الجذور ما زالت في الأرض فلسطين قصة لا تنتهي طالما ما زالت ذواتنا هنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.