استفاق العالم نهار السبت الواقع فيه السابع من تشرين الأول 2023 على أخبارٍ، هزت العالم كله، لقد استطاعت المقاومة الفلسطينية "حماس" التوغّل ضمن الأراضي المحتلة التي تشبه الحصن المنيع، واستطاعت أن تكسر خطوط الدفاع الإسرائيلية حول قطاع غزة؛ حيث تُعدّ تلك الخطوة الجريئة معجزة عسكرية من ناحية الصدمة والتوقيت والاستراتيجية المتعبة، لقد توغلت قرابة الأربعين كيلومتراً وقتلت أعداداً كبيرة من قوات الاحتلال في مشهدٍ شكل انتصاراً حقيقيّاً للشعب الفلسطيني وانتكاسة كبيرة للمجتمع الإسرائيلي على المستوى العسكري والاستخباراتي، وخصوصاً السياسي الذي أظهر مدى التفكك الذي تعيشه البلاد.
لم نكن نتخيل، في يومٍ من الأيام، أن نرى تلك الأعداد الكبيرة من القتلى في صفوف العدو، فضلاً عن عدد الأسرى. ولسوف تبقى تلك النكسة ذكرى أليمة في ذاكرة الإسرائيليين، فهي شبيهة بأحداث 11 أيلول 2001 وارتداداتها في وجدان الأمريكيين، فهي تُعدّ لحظة مفصلية في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ إذ إنّ ما قبلها ليس كما بعدها، ولم يكن ما حققته هذه النكسة على قدر توقعاتها، لا بل فاقتها بأشواطٍ كبيرة.
حتّى إنّ هذا الخرق بات يُعدّ انتصاراً كبيراً سوف يُترجم، في الأيام المقبلة، على المستوى الداخلي وعلى مستوى المنطقة أيضاً واقعاً حقيقيّاً، أما في مسار عملية السلام وقطار التطبيع، فسوف تتغير طبيعة النقاش ومسار المفاوضات ومؤشراته. وفي الاقتصاد الخسائر كبيرة جداً لا نستطيع إحصاءها في الوقت الراهن. هذا في الجانب السياسي والعسكري والاقتصادي، ولكن ماذا عن الجانب الأخلاقي للحرب القائمة؟ وكيف نستطيع أن نُقوّمه تقويماً دقيقاً؟
الأخلاق ظاهرة قديمة، اهتمت المدارس الفلسفية القديمة، منذ العصر اليوناني، بذلك الجانب، يعرّف أفلاطون الأخلاق بأنها تمثّل ظاهرة تعمل على كبح شهوات الإنسان، والتّسامي فوق مطالب الجسد بالالتفات إلى النفس والروح وتوجيههما لتحصيل الخير والمعرفة ومحاربة الجهل. وهذه الظاهرة لم تبقَ حبيسة الحضارة اليونانية، لقد توسع المسلمون في تفسير هذه الظاهرة كونها عنصراً أساسيّاً في القرآن والسنة النبوية والفقه والتصوف.
إن الأخلاق مادةٌ أساسيّة ومرجع ثابت في القانون؛ لأنها أحد المرتكزات الرائدة لقواعد القانون الدولي الإنساني ويمكن تعريف قانون الحرب أو القانون الدولي الإنساني بأنه مجموعة من القواعد القانونية التي تحدد حقوق الدول المتحاربة وواجباتها في حالة نشوب الأعمال العدائية، وتفرض قيوداً على المتحاربين في وسائل استخدام القوة العسكرية وحصرها بين المتقاتلين دون غيرهم، وتحمي حقوق ضحايا النزاعات المسلحة وبخاصة القتلى والجرحى والمرضى والأسرى في المعارك البرية والبحرية والجوية، فضلاً عن المدنيين المحميين من سكان المناطق المحتلة.
خرج الرئيس الأمريكي جو بايدن البارحة يخاطب الدول والرأي العام بما يحصل في الأراضي المحتلة، إذا قمنا بتحليل خطاب الرئيس، ندرك أنه قسّم خطابه إلى قسمين:
الأول كان خطاباً عاطفيّاً، والثاني كان خطاباً دينيّاً، ففي الأول، استعمل كلمات ومفرداتٍ وجدانيّة تجعل المستمع تلقائياً يتعاطف مع إسرائيل.
أما الجزء الثاني، فقد تطرق فيه إلى استجلاب فكرة الاضطهاد الديني الذي تعرض له اليهود في السابق، في صورة من استحضر التاريخ من أجل دعم فكرته. وفي الحقيقة، يعبّر هذا الخطاب عن المفهوم الأخلاقي الذي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية دائماً إبرازه للعالم، لناحية احترامها القيم الديمقراطية الغربية المشبعة بمفهوم الحريات والليبرالية وقبول التنوع والتعددية والتسامح. أما في حقيقة الواقع، فقد رفعت هذه الشعارات بطريقة استنسابية؛ فالديمقراطية الغربية هي في حدود ديمقراطيتهم، والحرية أيضاً هي ضمن مفهوم الحريات التي صيغت على قياسهم وعلى إيقاع مصالحهم الدولية، حتى إنّ أخلاق القوانين الدولية تنمو ضمن مفهوم الأخلاق الغربية، ولا يمكن أن تفهم الأخلاق خارج تلك الحدود التي أظهروها ورسموها.
ولا يمكن أن يتصوروا الحرية أو الليبرالية أو الديمقراطية نفسها كما هي على حقيقتها؛ وإنما هي تلك التي تم تحريفها وتأويلها بحسب مصالحهم وتصوراتهم الفردانية والجماعية. كي نفهم الواقع الأخلاقي أكثر، دعونا نعود قليلاً إلى صفحات التاريخ الغربي، وتحديداً إلى الحرب العالمية الثانية، فهذه الحرب تظهر للعالم وللتاريخ مفهوم الأخلاق الغربية في أعلى تجلياتها، فلقد مات، على أقل تقدير، 60 مليون إنسان، ونحن هنا، لا نريد أن نسترسل كثيراً في تفاصيل هذا الموضوع وعناصره، ولكني سوف أتناوله بشقه الأخلاقي، وأريد أن أتوقّف عند قضية الاستسلام الياباني في الحرب؛ حيث وافقت اليابان على الاستسلام؛ لأنها لم تعد قادرة على الصمود والمواجهة.
وفي الوقت الذي كانت فيه الحرب على وشك الانتهاء، قرّرت الإدارة الأمريكية ضرب اليابان بقنبلتين ذريتين ليس لإنهاء الحرب وتجنب الخسائر البشرية، إنما من أجل تخويف الاتحاد السوفييتي العدوّ الجديد وتوصيل رسالة للعالم أنها الأقوى عالمياً، فلقد سبق منطق القوة والسيطرة منطق الأخلاق وفلسفتها. ولم تكن مقولة نيتشه: "مات الله" محض صدفة على الإطلاق، إنما هي تعبير منطقي عن الواقع الذي كان ولا يزال يعيشه العالم الغربي. إسرائيل بحسب السردية والرواية الغربية هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وفي الواقع، هي دولةٌ عنصرية تقوم على التميّيز بين الأعراق والأديان والإثنيّات ولا تساوي بينهم، وهذا ليس في الممارسة؛ فحسب، إنما غدا في صلب القانون الإسرائيلي الذي يضع المواطن اليهودي في الدرجة الأولى.
هكذا، نصل إلى خلاصة مبدأية تفيد بأن مفهوم الديمقراطية في إسرائيل يتطابق تماماً مع مفهوم الديمقراطية الغربية. لقد أكدت هذه الحرب وكلّ الحروب التي مرت بها منطقتنا، ابتداءً من الحروب العربية -الإسرائيلية، مروراً بحرب الخليج والثورات العربية، أن القانون الدولي ليس إلا وجهة نظر، أما القانون الوحيد الساري في كل الحروب فهو لغة القوة والعنف والسلاح والقتل والدمار، ونسأل، أين كانت حرارة الخطاب الأمريكي الأخلاقي والإنساني عندما تم تدمير العراق وتحويله إلى بؤرة مليئة بالميليشيات الطائفية بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل؟ وفي نهاية الأمر، لم يكن هناك أي سلاح وكل التقارير كانت كاذبة ومُلفقة ومزورة من أجل تبرير الموقف الأمريكي إعلاميًّا وشعبيًّا.
كي لا نذهب بعيداً ونعود إلى التاريخ مرة آخرى، نحن نعيش حاليًّا الحرب الروسية الأوكرانية، ولقد استيقظ الوعي الإنساني عند العالم الغربي، وتدفق السلاح إلى أوكرانيا؛ لأنها تدافع عن شعبها وعن أرضها ضد روسيا المغتصبة، ولكن كيف استطاعت الأخلاق الغربية أن تصف الشعب الأوكراني بالبطل وأن تقف، في الوقت نفسه، في وجه حقوق الشعب الفلسطيني الذي يقدم الغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن أرضه وتاريخه ومقدساته وتراثه المتجذر في الأراضي الفلسطينية، داعمة دولة لا تعرف إلا القتل والدمار؟ كيف سمت الأخلاق هناك وتداعت هنا؟ فكما أن السيادة لا تتجزأ، كذلك الأخلاق فهي أيضاً لا تتجزأ ولا تنحاز إلى طرف ضدّ الآخر.
حتى لا تُتهم فلسفة أخلاقنا بالتحيز، سوف نجيب عن السؤال الآتي: أين هي معايير الأخلاق في ما فعلته حماس عندما قتلت مدنيين؟ فهذه الفعلة هي في صلب القانون الدولي المعتمد على الفلسفة الأخلاقية، فلقد اتفق معظم فقهاء القانون الدولي على شرعية مقاومة الاحتلال؛ إذ ماذا فعل الشعب الفرنسي، حينذاك، ضد الاحتلال النازي؟ ألم يقاوم الاحتلال بشتى الوسائل؟ هؤلاء محتلون، وكل إسرائيلي سواءٌ كان مدنيّاً أو عسكريّاً فهو محتل، وهو مغتصب للأرض، والقانون الدولي أجاز الدفاع عن النفس بكل الوسائل المتاحة. لقد دخلت الأخلاق الغربية في مرحلة انسدادٍ بنيوي وعقيم يستحيل أن تخرج منه إلا في حال غيّرت هذا المسار، وعادت إلى حدودها الطبيعية والمنطقية والفلسفية السليمة، بعيداً من تأويلاتها وطبيعة عقلها المنحاز الذي تأسس، منذ العصر اليوناني، مروراً بالرومان وصولاً إلى عصر الحداثة.
بدايةً، يحتاج هذا المسار إلى الخروج من المفهوم الغربي للأخلاق المصاغ على قياسه ومصلحته النفعية والمادية. لا يمكن أن تقف الأخلاق موقفاً معادياً للإنسانية وفي الوقت نفسه تقف مع أصحاب الحق والأرض، وهذه الاستنسابية قاتلة؛ إذ تجعل من تلك المعايير غير عادلة ومنصفة قد تصل إلى حدود الإعاقة الكلية. وهنا يُفتح باب التساؤلات الفلسفية والقانونية، ما قيمة القيم الأخلاقية في بلورة القوانين الدولية والمحلية إذا لم تكن المعايير الأصلية الإنسانيّة هي المرجع الأساسي لكل العقول الغربية والشرقية؟ فالقانون الذي لا يحترم الضعيف، ويقيم وزناً لحقوقه لا يستحق أن يحترم ويُجلّ إذا كان مجرّداً من صفاته الأخلاقية والروحيّة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.