رداً على التصعيد الذي مارسته إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وإمعانها في التنكيل اليومي بالفلسطينيين، والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى، والحصار وجرائم القتل واحتجاز آلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون والمعتقلات، وإطلاق يد المستوطنين ليعيثوا فساداً، جاءت عملية "طوفان الأقصى" على جبهات المستعمرات "الإسرائيلية" المحيطة بقطاع غزة المحاصَر، لتشكل حدثاً بارزاً في الصراع العربي- الإسرائيلي، غداة الاحتفال بمرور 50 عاماً على نصر السادس من أكتوبر عام 1973، حيث أعادت إلى الأذهان "الإسرائيلية"، ذكرى يوم أليم، باعتباره "يوماً أسود" جديداً يُضاف إلى سجل الهزائم التي تنتظر الغطرسة والغرور الصهيوني، ليتمرغ الكبرياء الإسرائيلي في الوحل، ويجعل "نتنياهو" يصرخ من "أيام صعبة" بعد أن تكبّد مئات القتلى وآلاف الجرحى، حيث كسرت المقاومة الفلسطينية دعايا الأمن "الإسرائيلية"، وأذلت احتلالاً طالما تبجح بقدراته العسكرية والاستخباراتية التي لا تُقهر، وحطمت المقاومة بهجوم مباغت براً وبحراً وجواً للمرة الأولى، أساطير وهمية صنعها العدو عن إمكاناته، فإذا بجنرالات يقعون في الأسر، ومستوطنين، رغم تسلحهم، يفرون مذعورين، تاركين مستوطناتهم الحصينة التي بُنيت على حدود قطاع غزة، هرباً من الجحيم الذين ظنوا أنهم غير ملاقيه يوماً.
لقد حققت المقاومة عنصر المفاجأة الكاملة، وحلّت الصدمة بجهاز الأمن الداخلي (شين بيت) ووحدة الاستخبارات العسكرية "الإسرائيلية" الشهيرة 8200، وهي الوحدة القادرة على سماع كل المكالمات الهاتفية التي تجري في غزة. ولعل أول مكسب للمقاومة هو ضرب قوات الاحتلال داخل الأراضي المحتلة لأول مرة منذ معارك النكبة عام 1948.
أثبتت المقاومة أنها قادرة على دخول المستوطنات والسيطرة عليها والتحصن فيها وقتل وأسر الجنود والمستوطنين، والسيطرة على مقار أمنية وعسكرية ومستوطنات، والعودة إلى القطاع بالأسرى والغنائم، في وضح النهار، وأمام أعين العدو الذي وقف مشلولاً من هول المفاجأة. والمكسب الأهم هو الفشل الأمني والاستراتيجي والاستخباراتي للاحتلال غير المسبوق، فحينما تفشل كل الأجهزة الإسرائيلية والأمريكية والمطبّعة في الحصول على معلومة واحدة بنوايا المقاومة، فهذا يعني سقوط خرافة قدرتها المطلقة.
الفلسطينيون لا بواكي لهم
بعد شعوره بالهزيمة، وتحت سَمْع وبصر العالم أجمع، دشن الاحتلال الإسرائيلي، كما هي عادته دوماً، مجزرة رهيبة في حق المدنيين في غزة، والحصيلة جريمة حرب وعقاب جماعي بحق أكثر من 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة، عبر إطباق الحصار المشدد ووقف إمدادات الكهرباء والمياه والوقود والسلع الغذائية، وقتل ما يزيد على ألف فلسطيني، وإصابة أكثر من 5 آلاف، غالبيتهم من النساء والأطفال، مما أدى إلى نزوح أكثر من 175 ألف مواطن عن منازلهم إلى الآن فقط، ولجوئهم لمراكز الإيواء ولدى الأقارب. وقصف أكثر من 27 مقراً حكومياً وعشرات المرافق العامة والمنشآت الخدماتية، وإلحاق دمار واسع بالبنى التحتية على مستوى الطرق والمياه والكهرباء والصرف الصحي.
كما أسفر القصف عن تدمير وهدم أحياء سكنية كاملة، شملت الكثير من الوحدات السكنية. وقد أعلن جهاز الدفاع المدني الفلسطيني في قطاع غزة، الأربعاء 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وجود أعداد كبيرة من الفلسطينيين تحت أنقاض منازلهم التي "دمرتها طائرات الاحتلال على رؤوس ساكنيها، في عدة مناطق من قطاع غزة منذ الليالي الماضية. ولا تترك قوات الاحتلال فرصة لأهل غزة أن يذهبوا لأي مكان للحماية، إذ فور وصول النازحين لمناطق الإيواء وسط غزة، شرع سلاح الجو مرة أخرى عبر طائرات F-16 بإنشاء حزام ناري امتد على مساحة 10 كيلومترات.
واستهدف القصف الوحشي مناطق الرمال الشمالي والغربي، وحي تل الهوى، ومحيط مستشفى الشفاء، ومجمع أنصار الحكومي، ومحيط الجامعة الإسلامية، وغرب مدينة غزة. بالإضافة لذلك، تم تدمير أكثر من 48 مدرسة تابعة للأونروا (منظمة غوث وتشغيل اللاجئين) والحكومة. وقتل 101 من الكوادر التعليمية وقرابة 300 طفل، و29 مركز رعاية أولية خرجت عن الخدمة من أصل 52 مركزاً، بما يهدد حياة آلاف المرضى الذين يتلقون المتابعة الطبية والأدوية. كما قتل منذ السبت الماضي 8 صحفيين، وأصيب أكثر من 20 آخرين. وأُلحق الدمار بعشرات المقار الإعلامية، ومُنع دخول الصحفيين الأجانب لغزة، كما تم قصف 13 مركبة إسعاف، ما أدى لقتل 6 من الكوادر الطبية وإصابة 18 آخرين.
ولا يكاد الفلسطينيون في غزة يفرغون من دفن شهدائهم الذين اغتالتهم يد الإرهاب الإسرائيلي حتى يستقبلوا شهداء جدداً. وهذه الجرائم ليست سوى فصل جديد من فصول الوحشية للاستعمار الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني المستمرة منذ 75 عاماً، حتى صارت دماء الفلسطينيين أرخص الدماء. فحين يُقتل أو يُخطف مواطن غربي في أي بقعة في الأرض، تقوم الدنيا ولا تقعد، وتتحرك الهيئات الدولية ترغد وتزبد، وتستنفر وسائل الإعلام لاستنكار ما حدث وللثأر ممن قَتل أو خَطف، بينما الفلسطينيون، فلا بواكي لهم.
ما دام البلد غير أوروبي، فيمكن أن تُباد شعوب بأكملها، وتُشرد عن أوطانها، وتُنْتَهَبُ خيراتها، وتُستباح أعراضها، فلا تكاد تسمع مُنكراً أو تَجد مُغيثاً وناصراً. في غزة يحصل كل ذلك، لخدمة أهداف الاحتلال القائمة على تصفية الأراضي الفلسطينية المحتلة من أصحاب الأرض وسكانها، وإجبارهم على تركها ودفعهم للخيار ما بين الموت تحت القصف "الإسرائيلي"، أو النزوح خارج أراضيهم، ليس بسبب أسر جنود إسرائيليين، كما تسوق أبواق الاحتلال، بل هو عدوان إسرائيلي لترميم الهزيمة التي مُني بها، في محاولة لتركيع المقاومة ونزع سلاحها، وإجبارها على توقيع اتفاقية هدنة من طرف واحد، وفقاً لشروط الاحتلال، تقبل فيه المقاومة بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بمعادلة التهدئة الدائمة مقابل العيش بأمن وسلام للإسرائيليين فقط، في مقابل استمرار الحصار على الفلسطينيين من البحر والجو والبر !
العرب ظاهرة صوتية.. سيوفهم حطب وخيولهم خشب
الموقف الروسي إزاء الحرب الوحشية ضد الفلسطينيين كان مقبولاً، وهو أفضل بكثير من مواقف العديد من الدول العربية والإسلامية، فقد دانت الغارات "الإسرائيلية" على غزة واستنكرتها، واعتبرتها عدواناً و تهديداً للسلم والأمن في المنطقة، ودعت الاحتلال الإسرئيلي إلى التوقف عن العدوان فوراً.
وكانت قمة الاستهانة بالأرواح الفلسطينية قد جاءت من وزير الدفاع الإسرائيلي "غالانت" الذي قال: "نفرض حصاراً كاملاً على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية، ونتصرف وفقاً لذلك !". وقالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية، إن تصريحات "يوآف غالانت" الأخيرة حول الفلسطينيين "دعوة لارتكاب جرائم حرب ".
وطالبت المنظمة محكمة العدل الدولية برصد تصريحات الوزير "الإسرائيلي"، منتقدة "المعاقبة الجماعية" للفلسطينيين. وكعادتها، تماهت الإدارة الأمريكية مع الاحتلال، حين صرح الرئيس الأمريكي، أن إسرائيل، في كل هذه المجازر، كانت تُمارس حق الدفاع عن النفس! وشاركها الأوروبيون ذات الموقف، فانتقل الحصار من حالة إسرائيلية، ليتخذ شكلاً أممياً، شاركت فيه معظم حكومات العالم، وضمنها بعض الدول العربية، إما اصطفافاً مع المشاريع الإسرائيلية والأمريكية، أو خشية من العصا الأمريكية الرادعة. لعلمهم أن العرب ظاهرة صوتية، وأن لا خيول لهم ليركبوها، ولا سيوف لهم ليشهروها، فسيوفهم حطب، وخيولهم خشب، في ظل حالة العجز والهوان التي يعيشها العالم العربي والإسلامي. فالعدو الإسرائيلي يعمل مشاريعه وأهدافه وإن كانت زوراً، بينما الكثير من قادة المسلمين يصيحون دون عمل. وقد اعتاد الإسرائيليون ومن والاهم من الأمريكان على التنديدات والتهديدات اللفظية، وهي ليست رادعة لهم، بل ربما جرأتهم أكثر، لعلمهم أنها مجرد تنفيس للسخط الشعبي، وتعويض عن عجز.
الأسرى الإسرائيليون.. مرتزقة ليس لهم من شرعية تحميهم
غريب أمر هذا العالم، صَمت طويلاً، ثم استشاط غضباً، لأن المقاومة الفلسطينية أسرت عدداً من الجنود الإسرائيليين. وبدأت المطالبة بإطلاق سراحهم تأتي من كل صوب. هذا العالم الذي سكت طويلاً، وهو يعلم أن السجون الإسرائيلية تعج بآلاف السجناء الفلسطينيين، ينتفض الآن مُطالباً بإطلاق سراح الجنود الإسرائيليين، مؤكداً انحيازه الفاضح ووقوفه إلى جانب العدوان والاستعمار.
كيف يمكن قبول إطلاق سراح الجنود الإسرائيليين والإمعان في تجاهل آلاف المعتقلين الفلسطينيين، الذين قضوا داخل السجون حيوات وسنين كثيرة؟ كيف يمكن قبول إطلاق سراح جنود إسرائيليين مع استمرار الحصار واحتلال الأراضي الفلسطينية؟ غير أن جواب المقاومة كان واضحاً، إما أن يَعُمّ السلام ليَنْعَمَ به الجميع، أو لا يكون أبداً. فقد ضمنت شرعة القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة حق المقاومة للشعوب التي تقع تحت سيطرة الاحتلال. وقد مارست هذا الحق معظم شعوب العالم التي عانت من الاستعمار، أما الجنود الإسرائيليون، فهم مرتزقة من جنسيات مختلفة هاجروا إلى فلسطين، ليغتصبوا حقوق أهلها، وليس هنا من شرعية دولية تحميهم.
الاستعمار الإسرائيلي يتصرف بجنون، كما الأعمى
إن المتابع لما يجري على أرض غزة، يرى تدميراً وقصفاً للمساكن وقتلاً وتشريداً للأهالي، لحقيقة أن الاحتلال الإسرائيلي يتم مده بأحدث وأقوى الأسلحة العسكرية في العالم، والتي تُمَكنه من سَحْق أي قوات عسكرية أخرى، من خلال استهداف قواته ومواقعه الاستراتيجية، إلا أن المقاومة لا تمتلك مواقع استراتيجية بادية للعيان، وقواتها ليست متمركزة، مما جعلها تستفيد من مزايا حرب العصابات في سرعة الحركة، والقدرة على التخفي وقوة التنظيم، الشيء الذي جعل التخمة العسكرية الإسرائيلية دون فائدة، إذ أصبحت قوات الاحتلال أشبه بمن يواجه أشباحاً، فلا يعرف الجنود الإسرائيليون من أين تطالهم نيران المقاومة. ولعل المتفحص يرى بجلاء صموداً واضحاً المقاومة، وعَجْزاً بَيّنا لجنود الاحتلال، على الرغم مما يتوفر لهم من أسباب القوة والعتاد. كل ذلك، جعل حكومة الاحتلال تتصرف بجنون، كما الأعمى، تقصف كل مكان في غزة.
وقد اعتبر خبراء عسكريون أن الصواريخ التي تطلقها المقاومة في غزة على الاحتلال "استراتيجية بالنسبة لمداها"، لكن أهميتها الأكبر بتأثيرها "النفسي" ونجاحها بأن يفقد قوات الاحتلال الإسرائيلي "قوة الردع"، معتبرين أن تأثير هذه الصواريخ "محدود"، لافتين الانتباه إلى إأها تدخل في باب "حرب الأعصاب وشل الحركة الاقتصادية في المدن الإسرائيلية وتوتير الحياة اليومية".
وأضاف الخبراء "إن كلام الجيش الإسرائيلي عن تمكن القبة الحديدية من اعتراض عشرات الصواريخ من غزة تجاه المستوطنات والمدن، هي محض كذب وخداع، ففي عالم الأسلحة لا يمكن لصاروخ اعتراض صواريخ أو قذائف صاروخية، والقبة الحديدية عبارة عن إشعاع صوتي يعترض فقط الرأي العام الإسرائيلي. وقد علق أحدهم ساخراً أن "القبة الحديدية وضْعُها الآن أسوأ من وضع حارس مرمى البرازيل أمام منتخب ألمانيا". إذ بلغت الخسائر الأولية وفقاً لتقديرات بنك "هبوعليم" الإسرائيلي منذ بدء "طوفان الأقصى" على قطاع غزة نحو 27 مليار شيكل (6.8 مليار دولار). فضلاً عن أن العديد من شركات الطيران الدولية أعلنت عن وقف تسيير رحلاتها إلى إسرائيل بسبب "الوضع المنذر بالخطر"، وكانت الخسائر الكبرى من نصيب الفنادق والمتنزهات والمجمعات التجارية.
وحدهم الفلسطينيون يستطيعون إدخال المحتلين إلى الملاجئ
بعد الصمود الأسطوري للمقاومين في غزة، لم يعد في مقدور الإسرائيليين تحقيق النصر الحاسم في معاركهم مع العرب، حيث أبطلت عملية الطوفان التفوق العسكري المزعوم الإسرائيلي، الأمر الذي لم تستطع الجيوش العربية تحقيقه مجتمعة، وكذا انهيار نظرية العمق الاستراتيجي التي حاولت إسرائيل التسويق لها للإبقاء على احتلالها لأجزاء من الأراضي العربية، وخصوصاً في فلسطين ولبنان، علاوة على الفشل في إبقاء المعارك الطاحنة بعيداً عن الجبهة الداخلية وعن العمق الاستراتيجي، حيث الصناعات الحساسة، والفشل في إنهاء الحرب في وقت قصير وبأقل الخسائر الممكنة.
كما أن متطلبات الحكم وقطار التطبيع لم تدفع فريقاً من المقاومة للاستجابة للضغوط الدولية بالاعتراف بإسرائيل، أو التخلي عن الكفاح المسلح، والإفراج الفوري عن الأسرى دون ثمن، فضلاً عن أن المقاومة أثبتت أن بمقدورها أن تكون بديلاً حقيقياً للاتجاه السائد في العالم العربي للتوصل إلى تسويات سياسية مع إسرائيل كخيار استراتيجي.
وعلى الرغم من حجم الدمار والحصار والخسائر البشرية الباهظة التي من شأنها أن تدفع أي شعب، مهما كانت قوته، لأن يخضع حفاظاً على أرواح أبنائه، فإن الشعب الفلسطيني أَبَى إلا أن يُواصل صموده، في موقف بطولي، مقارنة بما يحدث في بعض الوطن العربي، حيث يعتقل أفراد في بلد يبلغ تعداد سكانه الملايين، ويلزم الآخرون بيوتهم، حتى وإن كانوا على حق، خوفاً من البطش والتنكيل.
وحدهم الفلسطينيون يستطيعون إدخال الإسرائيليين إلى الملاجئ، ويجعلون من جنودهم الذين كانوا يحملون صفة "الجيش الذي لا يُقهر" يحملون صفة الجيش المهزوم. إننا أمام تجربة فريدة يجسدها الصمود الفلسطيني، دفاعاً عن الأعراض والمقدسات. هم يقولون للعالم "لا يوجد ما نخسره". يستشهد منا طفل ويولد آخر. تلك إرادة الله وإرادة النصر. فمنذ فجر السبت الماضي، أعاد أبطال القسام وإخوانهم من الفصائل الفلسطينية للأذهان البطولات المذهلة لسير أجدادهم في صدر الإسلام، مستعيدين زمن القائد العظيم خالد بن الوليد، بأسلحة بدائية ليس من بينها صواريخ "الباتريوت" ولا سلسلة طائرات "أف 16" وشقيقاتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.