فلسطين داري ودرب انتصاري.. لم يكن هذا النشيد للمرحوم الشاعر السوري سليمان العيسى عادياً بل هو ثوري إلى أبعد الحدود، وكان ضمن النصوص سهلة الحفظ؛ ففلسطين غالية منذ الصغر، وما يأتي منها قريب للقلب والروح، لم يكن عادياً حيث ما زلنا نحفظه كما هو في كتب المدرسة منذ أكثر من أربعين عاماً، نحفظه لأنه يشد أزرنا نحو فلسطين ويترسّب في أضلاعنا حيناً بعد حين، لكننا خُذِلنا في كل شيء فلم نستطع تحريرها حتى كبرنا وعشنا مرارة الانتظار والتبرك بفتات الاتفاقيات غير المنفذة.
تظل بلادي هوىً في فؤادي
ولحناً أبيا على شفتيا
ما شدني للكتابة حول هذا الموضوع ظهور امرأة فلسطينية تستنهض العرب وتنتخي فيهم الوعود والرجولة وتستصرخ العروبة بمرارة كبيرة، قائلة: "حبيتونا 70 سنة يكفي تعالوا على الحدود، تحركوا"، وذكرتني بتلك المرأة العُمانية بجزيرة سقطرى في عهد الإمام الصلت بن مالك الخروصي حين استنهضته فلبى نداءها وانتصر لها، امرأة أحيت فينا الذاكرة لأناشيد فلسطين وحبها الذي ما فتئ يزداد لكننا مغلوبون على أنفسنا أيتها الأخت العزيزة؛ فكثير منا يستصرخ آلام الأمراض المزمنة وشبابنا شلت منهم الحركة، لأن مناهجنا تغيرت ولم تعد أناشيد مناصرة فلسطين موجودة على خارطة التعليم، لكننا نحشدهم بالمتوفر في الذاكرة ونحثهم على القراءة عنها وعن أحبائنا هناك.
وجوهٌ غريبة بأرضي السليبة
تبيع ثماري وتحتل داري
دعوا هذا النشيد الثوري يحمل بذور النصر، دَعُوه يصدح بين قباب المآذن؛ افسحوا له الطريق واملأوه أنفةً وعزيمة وقوة؛ فالصهاينة أسوأ مما تتصورون، كان الأمل موجوداً باستمرار، لكنهم أضاعوه عاماً بعد عام، بدءاً باتفاقية وقف إطلاق النار بعد حرب أكتوبر 1973 مروراً باتفاقيات أوسلو عام 1994 وحرب تموز بين إسرائيل وحزب الله عام 2006، وحروب غزة بين إسرائيل وحركات المقاومة 2008، 2012، 2014، اتفاقيات مظللة وبنود مهلهلة لا تسمن ولا تغني لتبدأ معاناة الفلسطيني اليومية في نقص السلع، وضعف الكهرباء والماء وطوفان الأسعار في بلد محاصر يرضى بالفتات، ثم انتهاء بالحرب الدائرة حالياً "طوفان الأقصى"، وبعد بدأ العرب من خلال القصف الإسرائيلي المستمر التواصل مع زعماء العالم، واستردوا عافيتهم ليطلبوا من الأقوياء مراعاة المدنيين، ووقف القصف مقابل عمليات تبادل الأسرى.
سياسة ضبابية غير واضحة ورد فعل ضعيف بانتظار ما يخططه الآخرون ثم الشجب والإدانة كما يصف ذلك أحمد منصور في أحد برامجه، بينما يتحدث الحاخام ديفيد وايز عن عدم شرعنة دولة إسرائيل ويتحدث عن أن قيامها ضد أوامر الله كما جاء في التوراة؛ لأن الله كتب عليهم الشتات وعليهم الإيمان بهذا الأمر ومن يحاول غير ذلك فإن خسارته كبيرة، ويعتبرونه غير مؤمن وخارجاً عن التوراة.
ولأن مشاكل أوروبا الاجتماعية أدت إلى زيادة الجريمة في أواخر القرن التاسع عشر وإلى الإحباط الاجتماعي، كما تفاقمت المسألة اليهودية مع زيادة أعدادهم من مليونين ونصف في القرن الثامن عشر إلى ستة عشر مليوناً في القرن التاسع عشر، وكذلك ازدياد البطالة حتى باتوا يطلقون على المتعطلين "الفائض البشري"؛ فقد أسست الجيوب الاستيطانية هذه لاستيعاب المجرمين والساخطين دينياً واجتماعياً (استراليا أسسها مجموعة من المجرمين، والولايات المتحدة أسسها بعض الساخطين دينياً، وجنوب أفريقيا أسسها واستوطن فيها بعض الفاشلين اجتماعياً) ولأن الحل الاستعماري لكل المشاكل هو تصديرها فقد صدر لفلسطين مجموعة من اليهود الذين لم يستوعبهم الاقتصاد الرأسمالي الجديد كما ذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري.
وأعرفُ دربي ويرجع شعبي
إلى بيت جدي إلى دفء مهدي
منذ أن عاش هذا الشعب الأبي مرارة التهجير وغربة الوطن أصبح من حقه الرجوع، ولكن هيهات كيف الرجوع؟، ومسألة التهجير ما زالت قائمة وتتكرر عليه خصوصاً بعد القصف الشديد لغزة هذه الأيام، حيث أعلنت الأمم المتحدة عبر وسائل الإعلام عن تهجير ما لا يقل عن 200 ألف فلسطيني من سكان قطاع غزة، ومع ذلك فالفلسطيني يعرف دربه (درب النصر وليس الهوان)، عاش عزيزاً وسيبقى عزيزاً وسينتصر بإرادة شعبه لا بالحب والكلمات الرنانة التي تصدح ليل نهار من أفواهنا.
سيعود جميع المهجرين إلى بلداتهم وبيوتهم، إلى أحضان مراتع الصبا ومنابت العز، بيوت الكرامة تحت أشجار النخوة والشهامة يشرئبون إلى السماء رافعين رؤوسهم دافعين بهيبتهم ووقارهم نحوها يبذلون الغالي والنفيس، الثمين والقيّم، النادر والعزيز، ليبنوا بها عزتهم وكرامتهم ونضالهم الراقي، مع علمي أن العودة لا تكون بالأماني ولا بالشعارات ولا بالخنوع فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، هؤلاء القوم الذين أتوا من الشتات لبناء دولة هشة استوعبت الساخطين والفاشلين اجتماعياً والمجرمين وأصحاب العصابات، كما يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في لقاء تلفزيوني في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023، سيكون مصيرهم الخذلان وسيهزمون شر هزيمة وستنهار بهم دولهم أينما جاسوا.
لن نلقى للجمود العربي أي دواء، وندرك مدى جسامة الاشتراك فيه، لكننا مشتركون بالنيابة، مشتركون بالحالة، حالتنا عصية عن الحراك، عن القدرة، فقراء، لكن لا نشبههم، ونسينا أو تناسينا أن فلسطين لم تكن يوماً غيمة في مسالك السماء وإنما وطن لنا أيضاً، بلادنا التي أحرقتها الغربة في أرضها، جسد ممزق بعيد عن الأحضان، يسافر فيستقبله هذا مزعوراً وذاك متذمراً، وآخر مرحباً باستحياء، وغيره ثقيلاً غير مرحب به، يحجون إلى الكعبة المشرفة والمسجد الحرام ولا يحجون إلى قبلة المسلمين الأولى أو لا يحتاجونها، لقد حدد علماء الدين أهمية الأقصى بأنه مجرد مسجد وكان المسلمون يتخذونه قبلة لهم؛ فمنذ أن أسرى الله برسوله إليه اعتقد العلماء -ربما- أن الذهاب للأقصى لا يكون إلا بالإسراء وهذا أمر عظيم.
فلسطين داري ودرب انتصاري
هذا هو قيمته لديهم، لكن الوضع يختلف مع الشعوب، المسجد الأقصى بيت كل المسلمين، والأرض تخصنا جميعاً والقضية تعنينا، نؤثرها في أحاديثنا وندمجها مع أوقاتنا، في جلساتنا والتفاتاتنا، نعيرها اهتماماً كبيراً لكننا مكبلون، منكسرون من الداخل، عذراً أيها الصامدون، عذراً أيها المناضلون، عذراً كبيراً كبيراً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.