إن عدوكم لا يفهم إلّا لغة واحدة، هي لغة الحراب.
بكلمات للشهيد القائد عبد العزيز الرنتيسي بادرت والدتي بالرد على أول اتصال أجريته معها للاطمئنان عليها، في ظل ما يجري من أحداث غير عادية اشتعل لهيبها في قطاع غزة، حتى باتت طوفاناً أغرق دولة الاحتلال وقادته.
لخّص صوت أمي مزيجاً من مشاعر الفرح والفخر بإنجازات لم أشهدها من قبل، ومشاعر خوف وترقّب من القصف الإسرائيلي العنيف الذي أحفظ تفاصيله منذ الصغر، ورغم هول الحرب ها هو نفسه ذاك الصوت الهادئ المطمئن يبعث في قلبي أملاً جديداً كما يفعل في كل حرب أو اجتياح.
في تمام الساعة السادسة صباحاً يوم السابع من أكتوبر 2023، بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
فهبطت حالة من الهلع، والدهشة اجتاحت إسرائيل، ومع تداول مقاطع فيديو وصور تُظهر دبابات ومركبات مدرعة تابعة للجيش الإسرائيلي، تم تدميرها أو سيطر عليها مقاومون فلسطينيون، وتقارير تفيد بأسر العديد من جنود الاحتلال والمستوطنين، وأن المستوطنات الإسرائيلية تحت السيطرة الفلسطينية بالكامل، أعلنت سلطة الاحتلال نفسَها في حالة حرب، وهذا يعد حدثاً استثنائياً للغاية، حيث لم تشهد إسرائيل حالة حرب مشابهة منذ حرب أكتوبر 1973.
يأتي هذا الحدث كبرهان على فشل قاطع للاستخبارات الإسرائيلية، التي كانت تدّعي اطِّلاعها التام على مجريات الأحداث في عمق قطاع غزة، بجانب استبعادها الكلي لفكرة توغل المقاومة الفلسطينية إلى المستوطنات الواقعة على حدود غلاف القطاع، معتمدة على سياج حديدي فاصل كانت تسعى لتطويره تحت مشروع جديد سمّته "الطريق الآمن"، بهدف تحويل هذا السياج إلى جدار إسمنتي يمتد لنحو 4.6 كيلومتر وبتكلفة 50 مليون دولار.
كما كانت إسرائيل واثقة من أن حماس لن تتجرأ على شن هجوم كبير، لاسيما مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها القطاع في السنوات الأخيرة، والتي تأتي بالتزامن مع سماح إسرائيل لقرابة 20 ألف عامل غزّي بالعمل في المناطق المحتلة بعائد مادي مرتفع، ما قد يحدث أزمة داخلية جديدة لحركة حماس حال دخولها حرباً جديدة، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً.
لماذا اختارت حماس هذا الوقت تحديداً؟ ما المنطق من وراء ذلك؟
لم يترك العالم لنا شيئاً، تم تجاهل الفلسطينيين، فبالنظر إلى السياق السياسي العالمي في الوقت الراهن نرى تسارع الدول العربية والشرق أوسطية إلى تطبيع وتوطيد علاقاتها مع دولة الاحتلال التي تعاني من الأساس، إذ عادت محادثات اتفاق التطبيع بين السعودية و"إسرائيل" بقوة على الطاولة، مع تأكيدات من قادة الطرفين على سير الأمور في طريقها، كما هو الحال في عملية توطيد العلاقات التركية- الإسرائيلية التي تنتهجها أنقرة، وعلى الجانب الآخر تستفيد السلطة الفلسطينية من عمليات التطبيع من جهة، ومن ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لتقديم تنازلات لصالح السلطة الفلسطينية من جهة أخرى، مقابل التشديد الأمني في المناطق الفلسطينية الخاضعة لسيطرتها.
من الممكن أن تكون حماس قد رأت في هذا الهجوم وتوقيته حلاً مناسباً وفعالاً لتغيير واقع سياسي مذل يفرضه العالم، ففي مجتمع دولي يلتزم بلا أخلاقية، أخرج الفلسطينيون انتصاراً يرفع رأس الشعوب العربية والإسلامية التواقة للحظات نشوة وكبرياء افتقدتها بسبب أنظمتها.
اعتقد الإسرائيليون والقوى الغربية أن بالقوة العسكرية، وفرض الأمر الواقع، ستخضع فلسطين، وأن إسرائيل ليست مضطرة لمعالجة المشكلات الطويلة الأمد. النتيجة؟ تفاجأوا وتعجبوا من كيفية قدرة هذه المقاومة المحاصَرة على تنفيذ هذا الهجوم. وبهذا الفعل حاولت حماس تقديم رسالة واضحة، وهي أن الشعب الفلسطيني مازال حياً، وأن مقاومته يمكنها أن تحقق الهزيمة العسكرية على إسرائيل، والتأثير على التقدم السياسي الذي كان مستمراً.
طوفان الأقصى وشهر أكتوبر
لا يرجّح الكثير من المحللين السياسيين أن يكون التوقيت الذي قررت فيه حركة حماس شن حربها "طوفان الأقصى"، في اليوم الذي يلي الذكرى الـ50 لحرب أكتوبر 1973، حين نجحت مصر وسوريا في مفاجأة الجيش الإسرائيلي، ونجحت في عبور قناة السويس والتقدم نحو هضبة الجولان مصادفة.
فمن الممكن استشفاف رسالة المقاومة بأنها قادرة على فعل نفس الأمر بعد 50 عاماً، ما يعزز بشكل كبير من مكانتها في العالم العربي، ويظهر تحدياً كبيراً لتلك الدول والقادة الذين قاموا بإقامة علاقات مع إسرائيل في الخمسين عاماً السابقة.
نفس الغرور الذي أدى إلى اعتقاد الإسرائيليين في عام 1973 أنهم لا يمكن هزيمتهم، وأنهم القوة العظمى في الشرق الأوسط، وأنهم لم تعد لديهم حاجة للاهتمام بوجود المصريين والسوريين، هو الغرور نفسه الذي كبدهم الألم مرة أخرى بشكل مختلف، رغم التحذيرات للإسرائيليين بأن الوضع مع المقاومة الفلسطينية قابل للتغيير، لكن يبدو أن إسرائيل يمكن أن تلدغ مرتين.
متى تنتهي الحرب؟
أسأل أمي على الهاتف قبل أن ينقطع الخط بسبب القصف: متى نلتقي؟ فتجيبني بضحكة أسى لا أعلم ربما بعد عام وحرب، فأسايرها، فكلانا يعرف القصيدة، وأسألها متى تنتهي الحرب يا أمي؟ فتجيبني برقة: حين نلتقي يا بني!
في الواقع لا يمكن لأحد أن يخمن نهاية هذه الحرب، فمن جهة حققت المقاومة الفلسطينية التي تسعى إلى كسر شوكة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، وتحرير أسراها، وتخفيف الحصار الخانق عن قطاع غزة، إنجازاتٍ غير مسبوقة بتوغلها بمستوطنات وثكنات عسكرية كانت تُعتبر حصناً منيعاً لإسرائيل، بجانب تمكنها من قتل أكثر من 1200 إسرئيلي حتى اللحظة، وأسر عدد كبير منهم، ما يجعلها في وضع الغلبة والانتصار.
ومن جهة أخرى بدأ الاحتلال يحاول لملمة صورته المهترئة أمام مستوطنية، وبدأت تصب طائرات الإف-16 جام الغضب وقنابل الفوسفور على المباني السكنية في غزة، في عملية انتقامية، بينما تعلن حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، مجتمعة، الدعم الكامل لإسرائيل لارتكاب ما تشاء من جرائم، وكأنها ينقصها الدعم!
تغييرات هائلة تحدث في غزة والمنطقة بأكملها. فالمقاومة بما أنجزته نجحت في تغيير الديناميات التفاوضية والقوى في المنطقة. وهذا يضع مسؤولية كبيرة على كتفي الجميع للتعامل مع هذه المرحلة الجديدة بذكاء وحذر، إذ يبدو أن من يظنون أنهم أسياد العالم بتضامنهم الكامل مع إسرائيل سيجعلونها حرباً مقدسة كما يفعلون في أوكرانيا، حيث أعلن البنتاغون أنه قادر على تزويد أوكرانيا وإسرائيل في الوقت نفسه بالذخيرة والأسلحة.
قول جورج أورويل في روايته "الحنين إلى كاتالونيا": "لقد أصبحنا مبالغين بالحضارة، بحيث لم يعد باستطاعتنا التقاط الواضح البديهي، الحقيقة بسيطة جداً، لكي تنجو وتعيش عليك أن تقاتل، والقتال يفرض عليك توسيخ نفسك، الحرب شر، لكن كثيراً ما تكون الشر الأقل، الذي لا بد منه. والذين يشهرون السيف يؤخذون بالسيف، والذين لا يشهرون السيف تقتلهم الأمراض ذات الروائح الكريهة".
لقد سلب العالم الحياة من غزة منذ زمن، لذا فلنكن واقعيين ونطلب المستحيل، فالتاريخ لا يفتح إلا عنوة، يفتح بالقوة، قوة الجسارة، قوة الإيمان، قوة قضيتنا. لن يغلق الكتاب أبداً حتى تتحرر فلسطين. كما قال لي صديق ذات مرة: اليوم تُحرِّرنا فلسطين، وغداً نحررُ نحن فلسطين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.