الأرقام التي تكشفها إسرائيل عن أعداد القتلى والجرحى والأسرى ما هي إلا غيض من فيض. فالعملية المعقدة التي تم التخطيط لها لأشهر مستمرة، ألحقت خسائر غير مسبوقة بإسرائيل، ويمكن القول إن الهزيمة التي تتعرض لها إسرائيل من خلال عملية "طوفان الأقصى" تتفوق في مداها وتأثيرها حرب أكتوبر 1973؛ وذلك لأن الخسائر التي تكبدتها إسرائيل جاءت فقط خلال اليوم الأول، ومن يدري ما تحمله جعبة المقاومة الفلسطينية من كوابيس لقوات الاحتلال في الأيام القادمة.
نقل المعركة إلى الأراضي المحتلة
حتى أكثر المتفائلين من حركات المقاومة ومناصريها وحتى أكثر المتشائمين في إسرائيل بجميع قطاعاتها الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، لم يخطر على بالهم أن تشن المقاومة الفلسطينية هجوماً عنيفاً ناجحاً ومن دون نقص بهذا الشكل.
العملية التي نفذها المقاومون في قطاع غزة، هي اقتحام بري وبحري وجوي للمستوطنات الإسرائيلية داخل غلاف قطاع غزة وخارج هذا الغلاف. لقد قامت المقاومة بنقل المعركة إلى الأراضي المحتلة وهو ما شكلّ صدمة وكابوساً لن يتمكن الإسرائيليون من نسيانه أبداً، إذ وصفه نتنياهو بـ"اليوم الأسود"، و لا يمكن أبداً المقارنة بين حرب أكتوبر 1973 وحرب القسام ضد الاحتلال خلال أكتوبر 2023، وذلك لأن حرب عام 1973 جاءت عبر جيوش نظامية لدول ذات وزن إقليمي، بينما معركة "طوفان الأقصى" جاءت عبر حركات المقاومة التي تقبع في قطاع غزة وكانت تعاني من حصار بري وجوي استمر لسنوات. لقد نهض رجال المقاومة من الرماد ليسقطوا أسطورة جيش إسرائيل الذي لا يقهر. سوف تُمضي إسرائيل سنوات تبحث في أسباب فشلها الذريع أمام حركة حماس وفصائل المقاومة.
تمويه ومفاجأة
بينما كانت فصائل المقاومة تخطط على مدار الأشهر الماضية لهذه المعركة الشاملة، ظنت إسرائيل أن تكرار الاعتداء على المسجد الأقصى سوف يمر دون أي رد من قبل فصائل المقاومة. ولكن ونتيجة للجهود المضنية والتنسيق المشترك وتراكم الخبرات، فقد بادرت المقاومة الفلسطينية بشن هجمات متعددة الأوجه ضد إسرائيل أسقطت من خلال هذه الهجمات أي قدرة إسرائيلية على استجماع القوة واستعادة زمام المبادرة. لقد أسقط الفلسطينيون كل معادلات الردع التي حاولت إسرائيل فرضها منذ حرب 2006، ويبدو أن العكس صحيح، فالمقاومة هي من تفرض معادلة ردع جديدة من خلال أسر عدد كبير من الإسرائيليين من جهة والقدرة على التوغل في المستوطنات وكسر معادلة الأمن الإسرائيلية في هذه المناطق من جهة أخرى.
سر النجاح
أبرز ما ميّز هذه العملية هو "تراكم الخبرة الاستخباراتية" لحركة حماس وقدرتها على تحقيق التفوق الاستراتيجي في المجال الاستخباراتي. إن قطاع غزة صغير نسبياً من حيث الحجم الجغرافي وهو ما أوهم إسرائيل بأنها قادرة على مراقبته بشكل كامل، وهي بالفعل وظفت جميع قدراتها وقدرات حلفائها في سبيل مراقبة القطاع استخباراتياً، واستخدمت في ذلك الطائرات المسيرة والأقمار الصناعية والجواسيس. كل هذه الوسائل لم تسمح لإسرائيل بخرق العملية العسكرية الفلسطينية الضخمة. لم تتمكن إسرائيل من التقاط معلومة واحدة عن هذه العملية. والأكثر غرابة من هذا وذاك هو أن هذه العملية تتطلب تدريبات محاكاة على الأرض والتدريب على التنسيق بين الوحدات المشتركة، ويبقى السؤال هنا مفتوحاً: أين تدربت قوات المقاومة؟ وكيف استطاعت تحقيق النصر الاستخباراتي على إسرائيل في هذا المجال؟؟
ولا يقتصر النصر الاستخباراتي الفلسطيني على القدرة على منع تسريب أي معلومة حول عملية "طوفان الأقصى"، إذ يبدو أنّ حركة حماس وحركات المقاومة قادت حرباً استخباراتية لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات الحساسة حول المناطق المحيطة بقطاع غزة، ويبدو أنها رصدت خلال أشهر متتالية، التراكم العسكري الإسرائيلي ونقاط الضعف في المستوطنات وتحديد القواعد العسكرية التي من الممكن مهاجمتها أثناء الشروع بالمعركة، مما حقق لها عنصر المفاجأة وسمح لها بالتوغل الفاعل والمؤثر سواء في المستوطنات أو القواعد العسكرية، والسيطرة عليها وأخذ الرهائن والذخائر ونقلهم إلى القطاع.
وأما عن الجانب الآخر من التفوق في المجال الاستخباراتي، فقد اعترفت به صحيفة "يديعوت أحرونوت"، التي قالت إن الهجوم الفلسطيني المفاجئ، جاء بعد أن قال مسؤولون بارزون في الجيش الإسرائيلي للأوساط السياسية إن حماس ليست مهتمة بالتصعيد خلال الأيام الأخيرة، كما أكد المسؤولون أنفسهم أنهم ردعوا حماس، وذلك خلال محادثاتهم مع القيادة السياسية في الأسبوعين الماضيين. في الحقيقة لقد عملت حماس على إيجاد مثل هذا التوهم لأشهر ممتدة، خصوصاً عند امتناع الحركة عن التدخل في معارك الجهاد الإسلامي ضد قوات الاحتلال في مناسبتين. ويعود هذا الامتناع إلى خلق حالة من الاسترخاء لدى الإسرائيليين والشعور بنصر التفرد من جهة وعدم رغبة قيادة حماس السياسية والعسكرية في كشف قدراتهم القتالية قبل الموعد المحدد لبدء عملية "طوفان الأقصى" من جهة أخرى.
ختاماً، يشكل النصر الحقيقي للمقاومة الفلسطينية سواء في المجال العسكري أو الأمني أو الاستخباراتي، وأسر عدد كبير من الأسرى الإسرائيليين، هزيمة مدوية واستراتيجية لإسرائيل. ويبدو أن ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول لن يكون كما قبله؛ من ناحية أن من يرسم معادلات ردع جديدة ويرسم خطوط التماس هم الفلسطينيون وحدهم وليس من سواهم. كما أظهرت الهزيمة الإسرائيلية أن عناصر المقاومة هم من يقودون التفوق الاستخباراتي ويوظفون هذا التفوق في أرض المعركة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.