شهد هذا الصباح أكبر هجوم شنّته "حماس" على إسرائيل في السنوات الأخيرة. وبدأ الهجوم بتسلل مقاتلي "حماس" إلى إسرائيل عبر الحدود البرية. وبعد ساعات، انتشروا في جنوب إسرائيل. ورداً على هذه العملية (طوفان الأقصى)، التي نفذتها كتائب الشهيد عز الدين القسام، أعلنت إسرائيل حالة الحرب. ولم تنجح منظومة القبة الحديدية الإسرائيلية في صد قرابة الـ5000 صاروخ التي أطلقتها "حماس"، وأصابت صواريخ كثيرة أهدافاً متعددة في إسرائيل. ومن ناحية أخرى، نُشرت صور ومقاطع فيديو كثيرة للاشتباكات على الشبكات الاجتماعية، التي تُعد الآن أهم مصدر لنا عن الأحداث الجارية، وإن كانت أكثرها تضليلاً في الوقت نفسه.
وصدمت صور مقاتلي حماس وهم يأسرون جنوداً إسرائيليين، ويمطرون الدبابات والطائرات بالنيران الجميع، وخصوصاً إسرائيل. ومن الواضح أن هذا الهجوم، الذي وقع في الذكرى الخمسين لحرب 1973 لم يكن عشوائياً. ورداً عليه، أطلقت إسرائيل عملية "السيوف الحديدية"، وشنّت هجمات على غزة.
هجمات "حماس" الصاروخية
وهذه العملية، التي أعلن محمد الضيف، قائد كتائب عز الدين القسام، أنها جاءت رداً على الاعتداءات المتنامية على المسجد الأقصى في الشهور الأخيرة، تنتشر آثارها مثل انتشار النار في الهشيم. فحركة المقاومة تلك، التي بدأت في غزة، ستمتد إلى الضفة الغربية في الأيام المقبلة على الأرجح. وحماس كانت تخطط لهذا الهجوم منذ مدة طويلة على الأغلب. ففي مايو/أيار الماضي، شنّت إسرائيل هجوماً على حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، فاندلعت حرب مدتها 5 أيام بين الجيش الإسرائيلي والجهاد الإسلامي ومجموعات مسلحة أخرى في القطاع، وانتهت باستشهاد 34 فلسطينياً ومقتل إسرائيلية.
ولم تشترك "حماس" في هذه الحرب ويبدو أنها كانت تنتظر اكتمال استعداداتها. وحقيقة أن حماس أكملت استعداداتها في الذكرى الخمسين لحرب 1973، وأنها نفذت هجومها على إسرائيل في هذا التاريخ تؤكد أنها لم تكن عشوائية. وهي معركة سيذكرها التاريخ بأنها أكبر عملية نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل في العقود الأخيرة. وبينما تشن حماس هجومها، وإسرائيل تواجه عملية برية بعد زمن طويل، يُقال إن المخابرات الإسرائيلية فتحت تحقيقاً داخلياً موسعاً لمعرفة كيف فشلت في أن تحيط علماً بهذا الهجوم الضخم المنسق على أعلى مستوى. ومن ناحية أخرى، نشر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مقطع فيديو قال فيه: "نحن في حرب". وقال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إن حماس ارتكبت "خطأً فادحاً" وأعلن أن "دولة إسرائيل ستنتصر في هذه الحرب". وعلى الجانب الفلسطيني، دعت "حماس" كل المواطنين إلى الانضمام إلى "حركة المقاومة". ولنا أن نتوقع أن هذه الاشتباكات ستكون اليوم الأول في حربٍ ستدوم لأشهر.
وبعد اندلاع هذه الحرب، علقت دولاً مختلفة حول العالم عليها. فبينما أدانتها دول داعمة لإسرائيل مثل الولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وألمانيا، دعت تركيا وروسيا إلى الهدوء وضبط النفس. وهذه الإدانات الدولية لـ"حماس" والخطابات الداعمة لإسرائيل لم نرها حين استشهد 247 فلسطينياً العام المنصرم.
الوضع في المنطقة وعزلة فلسطين
يجب أن يُقرأ هذا الهجوم، الذي جهَّزت له حماس منذ فترة طويلة، بالتوازي مع عدد من التطورات في الشرق الأوسط. وكما قلت في مقالاتي السابقة، فإن اهتمام الصين بالشرق الأوسط جلب معه الإرادة لإنهاء بعض الصراعات في المنطقة. وذلك لأن استقرار المنطقة المهمة جيوسياسياً، ومن حيث الموارد أيضاً، حيث تريد الصين الاستثمار فيها، مهم لحماية استثماراتها. لهذا السبب شهدنا عملية التطبيع بين إيران والمملكة السعودية في الأشهر الأخيرة. هذا التطبيع مهم في مسيرة "القضية الفلسطينية" وكل الدول الإسلامية في المنطقة تقوم به منذ سنوات بين الحين والآخر. وذلك لأن "الوصاية" على فلسطين كانت محل خلاف بين السعودية وإيران منذ سنوات. فلأعوام ظلت إيران، من خلال حزب الله، تقف إلى جانب فلسطين بقوتها الصارمة وأسلحتها، في حين وقفت المملكة السعودية إلى جانب فلسطين بتقديم المساعدات الاقتصادية -والدبلوماسية جزئياً.
والآن بعد أن أصبحت إسرائيل حاضرة أيضاً في عملية التطبيع -على الأقل بالنسبة للمملكة السعودية في الوقت الحالي- فلن يكون من الخطأ القول إن القضية الفلسطينية تُركت دون رعايةٍ في هذه العملية. وبعبارة أوضح، فإن حالة التنافس بين القوى في المنطقة كانت دائماً أكثر فائدةً للقضية الفلسطينية. وذلك لأن الانفراج الذي تشهده المنطقة حالياً ليس عملية بنتها الأطراف نفسها من خلال ديناميات داخلية، بل هي عملية خلقتها ديناميات خارجية. وهذا يجلب معه عدداً من "التبعيات" و"القيود". كل هذا سيجعل القضية الفلسطينية أقل إثارة للاهتمام من ذي قبل. وفي هذه القضية، نشهد عمليةً تحوَّلت من الحظر النفطي عام 1973، الذي كاد أن يعاقب الغرب، إلى مجرد بيانات إدانة.
من ناحية أخرى، فإن وضع الدول الثلاث التي اشتبكت بشكل مباشر وغير مباشر مع إسرائيل في القضية الفلسطينية مهم أيضاً في الوضع الحالي: مصر وسوريا ولبنان. إن تسهيل الولايات المتحدة لعلاقات إسرائيل مع الحكومة المصرية بعد الانقلاب قد أدى، إلى حد ما، إلى "تحييد" أكبر قوة في الشرق الأوسط في هذه القضية. في المقابل، كاد لبنان أن يفلس بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية، في حين أن الحرب في سوريا و"علاقة التبعية" التي طورها نظام الأسد مع دول غير إقليمية خلال الحرب، أدت إلى عزل فلسطين من جهة، ومن الجهة الأخرى أجبر سوريا على الاكتراث بأمرها الخاص ليس إلا. ويُعَد بروز غزة وحماس نيابةً عن فلسطين في السنوات الأخيرة أحد أكبر المؤشرات على هذا الوضع.
السبب الحقيقي: النظام العالمي الظالم
في بيئةٍ تعمل فيها إسرائيل على توسيع مستوطناتها تدريجياً منذ سنوات عديدة، وبالتالي توسيع الأراضي التي تسيطر عليها تدريجياً، وتحاصر الضفة الغربية بـ"جدار الفصل العنصري" الذي بنته على الأراضي الفلسطينية، حيث يموت مئات الفلسطينيين كل عام، فإن الصمت الذي يخيِّم على كل أرجاء العالم تقريباً، بالأخص الأمم المتحدة، هو أكبر سبب للوضع الذي نعيشه اليوم. يفرض الإسرائيليون على الفلسطينيين اليوم نفس الحصار الذي فرضه عليهم النازيون قبل نحو ثمانين عاماً، بـ"جدار الضفة الغربية" الممتد على مسافة آلاف الكيلومترات الذي شيَّدوه على أساس ما أطلقوا عليه أسباباً أمنية. إن فلسطين، التي يتقيَّد وصولها حتى إلى الموارد الحيوية، والتي تتعرض للقمع الإسرائيلي في المسجد الأقصى وفي أراضيها منذ سنوات، لم يُسمَع صوتها في أي منظمة دولية، ويكاد هذا الصوت لا يُوضَع في الاعتبار بأي قدر.
هذا الوضع على وجه التحديد هو الذي دفع حماس إلى الواجهة على الجانب الفلسطيني أثناء العقدين الماضيين، وهو الذي دفع حماس إلى العودة إلى الكفاح المسلح، وتنحية المبادرات الدبلوماسية التي لم تكن ناجحة على أية حال جانباً. باختصار، لقد قام النظام العالمي وإسرائيل، عمداً وطوعاً، بدفع المقاومة الفلسطينية من الكفاح الدبلوماسي إلى الكفاح المسلح، مما فتح المجال لتوصيف حركة المقاومة بأنها "حركة إرهابية" وتحقيق مكاسب جديدة من خلال القيام بعمليات مسلحة ضد فلسطين.
اليوم، قد تكون الصور ومقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تزعم مقتل نساء وأطفال على يد حماس، حقيقية أو مضللة. هذا هو "الجانب الآخر من الحرب" الذي نواجهه في كل حرب تقريباً. ولكن سواء كان الأمر حقيقياً أم لا، أعتقد أن المحللين الذين قرأوا حركة المقاومة الفلسطينية من خلال مثل هذه الأحداث وأطلقوا تصريحات مثل "حماس تتصرف بشكل خاطئ" ليس لديهم نوايا حسنة. إن حركة المقاومة هذه مهمة للغاية بحيث لا يمكن تقييمها من خلال التركيز على مثل هذه الحوادث الفردية.
إن تقييم حركة المقاومة هذه من خلال هذه الأحداث لن يصب إلا في مصلحة إسرائيل والغرب الذي يتعامل مع المقاومة الفلسطينية على أنها "إرهاب". بعد كتابة هذا المقال في الساعات الأولى من الهجوم، آمل أن ينجح الشعب الفلسطيني في مقاومته العادلة وأن يُهزم "النظام الجائر" هذه المرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.