هل يستحق الفيلم التركي “About Dry Grasses” الترشح للأوسكار؟

تم النشر: 2023/10/06 الساعة 10:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/10/06 الساعة 10:46 بتوقيت غرينتش
الفيلم التركي "About Dry Grasses" / الشبكات الاجتماعية

استقبلت دور العرض السينمائية فيلم About Dry Grasses أو "عن العشب الجاف" في 29 سبتمبر/أيلول، للمخرج نوري بيلجي جيلان والممثلة التركية ميرفي ديزدار، التي حازت جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي عن دورها في هذا الفيلم المرشح لتمثيل تركيا في مسابقة الأوسكار.
يُقدّم فيلم About Dry Grasses لمشاهديه وليمة سينمائية على المستوى البصري والعقلي مدتها 197 دقيقة، من تأليف نوري بيلجي جيلان وإيبرو جيلان وأكين أكسو، وبطولة ميرفي ديزدار ودينيز جليل أوغلو ومصعب إيكيجي.

بعدما أظهر جيلان ما اعتبره كثيرون نضجاً فنياً مع فيلمي "سُبات شتوي" عام 2014 و"شجرة الإجاص البرية" عام 2018، جاء عمله الفني الجديد ليؤكد صحة ما يراه جمهوره في هذا الصدد. 

يتضح في السيناريو التأثير الكبير لذكريات أكين أكسو، أحد كتّاب سيناريو الفيلم، عن فترة عمله مدرساً في مدرسة ابتدائية في الشرق. في هذا الشأن، يُظهر الفيلم سمة البحث عن الحقيقة بدلاً من الانفصال عن الواقع. يروي فيلم "عن العشب الجاف" (About Dry Grasses) قصة ساميت، مُعلّم الفنون الذي يحلم بالعودة إلى إسطنبول بعد إنهاء خدمته الإلزامية في قرية شرقية نائية، حيث يشعر كأنه "عشب جاف" مهمَل في منطقة نائية. تركز القصة -التي تتطور أحداثها بين ساميت وصديقه مُعلّم الآداب، كنعان، ومُعلّمة اللغة الإنجليزية، نوراي- على الريف وممارسات الحياة اليومية لسكان الريف والطريقة التي ينظرون بها إلى العالم، مع الكشف عن الوحدة الأنطولوجية للفرد ومغامرة اليأس الناجمة عن هذه الوحدة من خلال مقاربة وجودية.

يسلط الفيلم الضوء أيضاً على مأساة لا مبالاة الناس تجاه بعضهم البعض، ويُصوّر حالة الفوضى التي يعيشها الإنسان داخل نطاق احتمالية التعرّض لمفهوم الظلم. إنَّه ثمرة تصالح الفرد مع ذاته ومجتمعه وعمره.

تلتقي الصراعات الداخلية للشخصيات وأشكال الصدام الثقافي عند القاسم المشترك، ويكرر الفيلم في هذا الصدد الموضوع الرئيسي لجيلان، المتمثل في "ملل حياة الريف". حقيقة أنَّ الفيلم يركز على شعور الفرد المعاصر بأنَّه عالق مجدداً تكشف قدرة جيلان على التقاط صورة للمجتمع من الجانب الصحيح.

About Dry Grasses.. الخير الخالص أو الشر الخالص

بدايةً من المشهد الافتتاحي للفيلم، تظهر مشاهد ثلجية مُقرّبة، وأخرى بعيدة تمتد إلى مساحات عميقة. بالطبع، ليس من قبيل الصدفة استخدام الثلج في كثير من الأحيان وتصويره على مسافات تصل إلى ما لا نهاية. تُبنى قصة الفيلم على مفهومي الخير والشر، ولعل عبارة ساميت تحديداً، "هناك موسمان هنا، إما الشتاء أو الصيف"، تفتح المجال أمام احتمالات هذا المعنى، بالإضافة إلى أنَّ الدوافع الداخلية للشخصيات، وحاجتها إلى وضع نفسها في مكانٍ آخر مع إحساسها العميق بالوحدة تسمح لمفهوم "الخير الخالص" أو "الشر الخالص" بإيجاد ما يعادلهما في القصة.

يرتبط وجود موسمين فقط ارتباطاً مباشراً بظهور الشخصيات في صورة إما خير خالص أو شر خالص. جاءت توقعات ساميت وكنعان وهما في طريقهما إلى مديرية التعليم والواقع الذي يصطدمان به هناك، والتشكيك في هوية نوراي خلال بحثها أثناء رحلتها من أنقرة إلى القرية مبنية على مفهومي الخير والشر. تبرز أهمية كبيرة لحقيقة أنَّ ساميت وكنعان -اللذان انطلقا مع توقع تعيينهما نائبين لمدير المدرسة- صدر لهما تحذير بسبب أسلوبهما في التواصل وبُعدِهما عن الطلاب، ولصراخ كنعان جراء الشعور بالذنب واعتقاد ساميت أنَّ كل هذا حدث له بسبب كنعان. ولأنَّ الشخصيات غير مستعدة لمواجهة نفسها، فهي تسارع لجعل ما بداخلها من شر موجوداً بسبب شخص آخر. يشير واقع إزالة الثلج في نهاية الفيلم إلى أنَّ الحقيقة لن تبقى مخفية إلى الأبد. يحمل الصراع على تأكيد الجدارة بين ساميت وكنعان أهمية كبيرة أيضاً في فهم دوافعهم الداخلية. يشعر كنعان بالغيرة لأنَّه لا يحظى بنفس شعبية ساميت بين الطلاب. يضيف دخول نوراي لاحقاً إلى حياتهما بُعداً آخر لهذا الصراع.

ثمة قواسم مشتركة عميقة في الطريقة التي ترى بها الشخصيات نفسها على أنَّها "نقية" مثل الثلج الذي يكسو الطبيعة، وكذلك الطريقة التي تواجه بها الشخصيات نفسها وترى الشر في ثوب الخير، بينما يختفي الثلج. رسالة جيلان في هذه المرحلة هي نتيجة اهتمام عالمي، إذ تتمثَّل في فكرة عدم إمكانية وجود خير محض أو شر محض وأنَّ البشر يعيشون بمزيج من الاثنين.

معرفة الذات و"عناء الأمل"

من خلال مساحة الاحتمالات التي فتحتها شخصية ساميت تحديداً، يدفع جيلان المشاهدين إلى التشكيك في معرفة الإنسان لذاته. يظهر الجانب الشرير للإنسان، الذي تمثله شخصية ساميت، بشكل غير مباشر من خلال علاقة ساميت مع تلميذته، ويشار إلى أنَّ قوة الشر يغذيها شعور لا متناهٍ بالوحدة. من خلال التركيز على "التَفهّم" بدلاً من إصدار أي حكم أو الانحياز إلى طرف، يصبح الفيلم بمثابة تسليط ضوء على ظلام النفس البشرية. ينبع حياد جيلان بهذا المعنى من وجهة نظره التي تجعل كل حالة وعاطفة إنسانية طبيعية. ربما هذه هي القضية الأساسية التي يريد إظهارها طوال الفيلم؛ الإنسان، الخير، الشر، التميُّز والاعتيادية.

About Dry Grasses
الفيلم التركي About Dry Grasses

بخلاف أفلام جيلان الأخرى، لن يكون من الخطأ القول إنَّ أدوار الشخصيات في المجتمع تخضع للتقييم والحكم عليها في نطاق أوسع. تُختبر الشخصيات من خلال سلوكيات انتمائها إلى المجتمع، إلى جانب انتمائها إلى نفسها وإلى محيطها الاجتماعي المباشر.

تُمثّل الصور المكررة طوال الفيلم قيمة سينمائية مهمة أيضاً. يساعد مشهد إظهار نصف وجه ساميت في الظلام، بينما يحاول النوم ليلاً في حالة من الضجر والسأم في قراءة شخصيته بمزيد من العمق. أما سلوك إدارة ظهره للنافذة وسحب غطاء سريره في مواجهة الضوضاء الخارجية يكشف عن شعوره الداخلي بعدم الراحة وعلاقته بالعالم الذي يعيش فيه. اللقطات المقربة لوجه ساميت في المشاهد التي يعبر فيها فقط عن غضبه هي البيان القاطع لوجهة نظر جيلان تجاه الشخصية الرئيسية في فيلمه. بنى جيلان شخصية ساميت من خلال التركيز على غضبه.

تغذي الحالات العاطفية المختلفة، مثل الإحباط والفشل الفردي وانفطار القلب واليأس، البنية المميزة للفيلم بينما تبين أيضاً أنَّنا لسنا بحاجة إلى تجربة مشاعر مماثلة حتى نفهم ما يشعر به الآخرون. مع كل الاستجابات العاطفية التي يتطرق إليها الفيلم، يجعلنا "عن العشب الجاف" نفكر في بناء عالم صالح للعيش بعيداً عن عالمنا الحالي.

إبداع في أسلوب "القص الما ورائي"

هناك مشهد في الفيلم لم يسبق له مثيل في سينما نوري بيلج جيلان. يتناول ساميت العشاء مع نوراي عندما تطلب منه إطفاء الأضواء؛ ليصبح على وشك قضاء الليلة معها. يتجه ساميت نحو حوض المغسلة. نرى بطل الفيلم في هذه اللحظة خلف الكاميرا، في موقع تصوير فيلم "About Dry Grasses". يعود ساميت إلى نوراي في الغرفة. يُعرف هذا النوع من الكتابة في الأدب باسم "القص الما ورائي" ويتسم بمشاركة المؤلف في القصة بصفته مراقباً. من اللافت للنظر أنَّ هذه أول مرة يستخدم فيها نوري بيلج جيلان هذ النوع من الكتابة السردية، الذي شوهد في السينما من قبل. لن يكون تفسيراً مبالغاً فيه إذا اعتقدنا أنَّ جيلان، من خلال تضمين بطل الفيلم في موقع التصوير الواقعي، يشير إلى حقيقة أنَّ ساميت -بخيره وشره، بغضبه وهدوئه، بصيفه وشتائه- هو واحد منَّا، هو شخص عادي قد يمر علينا في أي لحظة.

حقيقة أنَّ جيلان، وهو فنان درس التصوير الفوتوغرافي، يعرض الصور عدة مرات ملء الشاشة لفترة طويلة يمكن اعتباره أيضاً إبداعاً مبتكراً. يرد جيلان، الذي تعرض لانتقادات بسبب مفهوم "السينما الفوتوغرافية"، على هذه الانتقادات القديمة من خلال دمج التصوير الفوتوغرافي مباشرةً في الفيلم.

هل يجب على نوري بيلج جيلان أن يكون سياسياً؟

منذ بداياته في عام 1997، اتهمت الأوساط الفنية "المستقلة" نوري بيلجي جيلان بأنَّه "غير مُسيّس بما فيه الكفاية". قال جيلان، في كلمته أثناء تسلمه الجائزة في مهرجان كان، "أهدي هذه الجائزة إلى بلدي الجميل والوحيد الذي أحبه بشغف". تعرَّض جيلان لانتقادات أيضاً من دوائر فنية "مستقلة" لأنَّ الأوساط الفنية في المجتمعات الشرقية لا تقبل الفنانين الذين لا يرفضون القيم التي تُشكّل هويتهم. يمكن اعتبار فيلم "عن العشب الجاف" التجربة السينمائية "الأكثر سياسية" لجيلان، على الرغم من اتهامه بأنَّه غير مُسيّس بما فيه الكفاية. حقيقة أنَّ الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم تُجريان نقاشاً طويلاً على الطاولة حول مفهومي "التقاعس السياسي" و"النضال المنظم"، وأنَّ نوراي تفقد ساقها كنتيجة سياسية للحياة التي عاشتها قبل مجيئها إلى القرية، وأن العلاقة بين الجغرافيا التي تدور فيها أحداث القصة ومشكلة الإرهاب التي تجد مكاناً لها في الفيلم هي بداية رائعة مميزة بالنسبة لسينما جيلان. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ تفسير الشخصية الرئيسية لحقيقة أنَّ العالم مكان فظيع -بغض النظر عن جميع المواقف السياسية- يُمثّل قيمة كبيرة لفهم وجهة نظر جيلان. 

الأخطاء ونهاية الفيلم

كان هناك عنصران في الفيلم لا يمكن أن يَمرا مرور الكرام، وهذا ما يزيد من احتمالية حدوث أخطاء. يتمثل العنصر الأول في أنَّ ساميت كان ضيفاً في منزل نوراي ليلة السبت، لكن عندما عاد إلى المنزل صباح الأحد، أراد إخفاء هذا اللقاء عن كنعان، لذا أخبره أنَّه ذهب إلى المؤسسة العامة التي كان منتسباً إليها لمتابعة إجراءات النقل. العنصر الثاني هو أنَّ لوحة سيارة كنعان ظهرت مختلفة في أحد المشاهد.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أوندار كاراكاش
كاتب وباحث في السينما والأدب
كاتب وباحث في السينما والأدب
تحميل المزيد