العصا والمعلم.. كيف بدأ الضرب في المدارس؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/10/05 الساعة 11:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/10/05 الساعة 11:06 بتوقيت غرينتش

من المشاهد الجميلة التي ألحظها عند مروري عبر الشوارع والأحياء السكنية، اجتماع الأطفال من أعمار مختلفة لممارسة لعبة "المعلم والتلاميذ"، حيث يقوم مجموعة منهم بتمثيل دور التلاميذ فيُظهِرون علامات الانضباط كأنهم في حجرة الدرس بجلوسهم متجاورين في الغالب على حافة الرصيف يجمعون أيديهم كما يقبض في الصلاة، مركزين نظرهم إلى معلمهم بنظرة تجمع بين الاحترام والخوف، يحملون أوراقاً أو ألواحاً مع أقلامها المناسبة، وتسمعهم في الغالب يصيحون: "سيدي أنا.. سيدي أنا.."، رافعين أيديهم ليؤذن لهم بالإجابة.

في مقابل الصف المنضبط كأنهم جند في ساحة العَلم، يقف الذي ينادونه "سيدي" متقمصاً دور المعلم وممارساً لكل صلاحياته بثقة غريبة لا يمكن لمن يتجاوز عالم الطفولة تحديد مصدرها.. أمام هذه الصورة الجميلة الباعثة على الاطمئنان نسجل ملاحظة تبدو في ظاهرها بسيطة لكنها في الحقيقة خطيرة وكاشفة لخلل عميق في خلفيتنا الفلسفية الضابطة للعملية التعليمية، تتمثل في الصفة (الدخيلة) اللازمة والمميزة للطفل الذي يقوم بدور المعلم وهي حملُه للعصا! فببراءة الأطفال نجد إصرارهم عند إخراج مشاهد اللعبة على تمييز "الطفل-المعلم" بتجهيزه بعصا يلوّح ويهدد بها وكثيراً ما يستعملها في معاقبة تلاميذه المفترضين وهم مستسلمون بشكل غريب لضربات العصا المؤلمة. 

هذا الجزء من المشهد هو الذي همني وشغل تفكيري، فما الذي أقنع البراءة بأن التدريس والتعلم  يقتضيان حضور العصا كأداة بيداغوجية لا غنى عنها؟! وما الذي رسم في مخيّلتهم البريئة أن لا معلم دون عصا؟

1-القناعة متوارثة: لو راجعنا كيف أصبح عادياً استعمال العصا في التعليم لوجدنا أن القضية قديمة ترى صورها وتتلمس تفاصيلها في القصص حولها عند:


– طلبة حفظ القرآن عند حديثهم عن ذكرياتهم مع "سيدهم الشيخ" (ويقصدون به معلمهم للقرآن..) والذي لا يذكرون عنه في الغالب إلا حالات العقاب التي كانوا يتعرضون لها عند تقصيرهم في الحفظ أو إهمالهم لواجب من الواجبات المرافقة، فكثيراً ما يتحدث هؤلاء بمزيج من البهجة والحسرة على عقوبة "ضرب الفَلَقَة" التي كانوا يتعرضون لها (حيث يمسك طالبان رجلَي الصبي ويجلده الشيخ بعصا على بطن قدمه..)، والعقوبة كانت قاسية جداً قد يعجز الصبي عن السير على قدميه لمدة طويلة!

– تلاميذ مدارس الاستعمار الذين درسوا باللغة الفرنسية، خاصةً الذين يُعرّفون أنفسهم بأبناء "المدرسة القديمة"، حيث تجد أغلبهم يتحدثون بفخر واضح ويكررون القصص نفسها عن معلميهم الفرنسيين ويحفظون كل تفاصيلهم إلى اليوم ويركزون حديثهم، خاصة على طرق التعذيب (وليس العقوبة..) التي كانوا يتعرضون لها داخل أسوار المدرسة، ومن يستمع لرواياتهم اليوم يعتقد أنهم كانوا محتجزين في معتقلات التعذيب التي اشتهر بها النازيون. ومما لاحظته شخصياً أن أساتذة الفرنسية حينها كانوا يتفننون في استعمال أنواع متعددة من العقوبات أكثر من غيرهم، والظاهر أن قسوتهم التي كانوا يُبدونها كانت نتيجة منطقية لما تعرضوا له في مدارس الاستعمار!

وبما أن هذين الصنفين هما من أطّرا العملية التربوية في جزائر الاستقلال، فمن الطبيعي أن تدرج العصا كوسيلة تربوية في مناهج وأساليب تدريس أبنائنا. ويمكن تفسير ذلك من منظور نفسي، حيث يلجأ المقهور للتشبه بقاهره الذي يذكّره بمرارة عجزه حتى يعيد لنفسه (كما يتوهم..) الاعتبار فيسقط عجزه على من هو أضعف منه، فتنشأ في المؤسسة سلسلة علاقات غير طبيعية أقل ما توصف به هو أنها استعبادية تظهر في موضوعنا أكثر بين المعلم وتلاميذه.

-الأسرة مسؤولة أيضاً: بما أن مؤسسة التنشئة الأولى هي الأسرة، فهي المسؤولة الأولى عن تحضير الطفل وإقناعه بأن العصا وسيلة طبيعية، ومن الضروري أن ترافقه في عملية تعليمه. فالأسرة التي تجيز معاقبة الرضع فيها والتي تفخر بالطرق العنيفة التي تستعملها بحجة تأديب أبنائها، من الطبيعي أن تعتبر استعمال العصا لتعليمهم أداة علمية ومن الأساليب البيداغوجية التي ينصح بها. وهذا ما نلمسه في مجالسنا الحقيقية أو الافتراضية، حيث تجد كثيراً من الأولياء يؤيدون استعمالها ويدعون إلى اعتمادها، والأدهى يتحسرون على ما يسمونه "الزمن الجميل" الذي كان فيه التلميذ يُجلد صباح مساء والغريب ادعاؤهم أن ذلك القمع كان السبب في نجاحهم وتفوقهم، نقول لهؤلاء وأولئك إن كانت هذه هي الصفة المميزة فبئس الزمان ذاك الزمان:

فالظلم الذي تعرضت له البراءة حينها هو السبب الأكبر الذي دفع كثيراً منها للهروب من المدرسة وزرع فيها الكره للمعلم والبغض للعلم والتعلم، وساهم في زرع أمراض تتوارثها الأجيال دون وعي والتي من صورها تشوه لمفهوم الهوية وانكسار في الإرادة يرافقهما احتقار للذات.

فاستمرار اعتماد العصا في المدرسة بعد تحرير الأرض ساعد بشكل ما على استمرار وجود المستعمر في ثقافة الناس ووجدانهم، فالقهر والتعذيب اللذان عاشهما الشعب الجزائري طيلة 132 سنة استمرا ولو بشكل أخف باسم ضرورات التعليم في المدرسة أو باسم ضرورات حفظ الأمن خارجها.

-الخطأ من طبيعتنا: في تقديري أن التلميذ الذي يعاقَب في المدرسة لأنه أخطأ في الإجابة مظلوم، وسيطالب بحقه أمام الحق الديان الذي يضمن ذلك في قوله تعالى: "… وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ" [الأنبياء: 47]، فالإنسان مجبول على الخطأ، ومن عبقريته أنه يتعلم من خطئه ويصحح هفواته ويستمر معه هذا طول حياته، وهذا مما أشار إليه عليه الصلاة والسلام في توجيهاته التربوية، حيث وضع قاعدتين أساسيتين للعملية التعليمية يمكن تلخيصهما في ما يلي:

القاعدة الأولى: "كلُّ بني آدم خَطَّاء": بما أننا من صلب آدم فالأصل فينا أننا نخطئ، ولو دققنا في المصطلح المستعمل "خَطَّاء" نجده صيغة مبالغة يؤكد النبي من خلالها أن من طبيعتنا أننا نخطئ بكثرة، فكيف لنا أن لا نقبل خطأ التلميذ في القسم، والأخطر أن نعاقبه عليه بدنياً أو لفظياً أو باستعمالهما معاً هذا من جهة، ومن جهة ثانية إذا كان التلميذ لا يخطئ فما ضرورة ذهابه إلى المدرسة؟!

القاعدة الثانية: "وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون": وفي هاته القاعدة يبين لنا -عليه السلام- أن العبقرية والتميز، في العودة عن الخطأ وتصحيح سقطاتنا، فمهمة المدرسة الأساسية هي تقويم مفاهيم التلميذ وتصويب معلوماته وتدريبه على التعلم من تجاربه وأخطائه وليس توهم الحصول على مواطن ملائكي يصيب ولا يخطئ أبداً.


القاعدة الثالثة: ومنها نقول للذين يتباكون عن فقدان المعلم لعصاه أو للذين يعتقدون أن العصا حل سحري لنجاح العملية التربوية أو للذين يسوقون أسباباً أخرى:

إنه مهما كانت مبرراتهم التي يحتجون بها، وعلى تسليمنا بمختلف صور ضعف المنظومة التربوية التي نتفق حولها أو نختلف، فالعصا لم تكن يوماً أسلوباً تربوياً في يوم من الأيام، وليست حلاً لمشاكلنا البيداغوجية بأي شكل من الأشكال، ولا أظن الدعوة إلى اعتمادها ضماناً لصحة وسلامة المعالجة.

فضعف نظامنا التعليمي ومظاهر عجزه مردها أساساً لسياساتنا التعليمية العرجاء التي ثبت فشلها، والحل ليس مستحيلاً ولا سحرياً، بل ينطلق ابتداءً بالتشخيص العلمي الدقيق للأعطاب ثم اللجوء إلى اعتماد المعالجة بالأساليب العلمية البيداغوجية التي لن تجد بينها العصا والعنف بأي شكل من الأشكال.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

لكحل رابح
مهندس جزائري في مجال الإلكتروتقني، ومدون مهتم بالشأن السياسي
مهندس جزائري في مجال الإلكتروتقني، ومدون مهتم بالشأن السياسي
تحميل المزيد