عملت مع أحد عباقرة الإدارة فترة من الزمن، وهو من أولئك الذين تتعلم منهم بالمراقبة، بالسؤال، بتطوعهم بتوجيهك، أولئك الذين يتركون فيك بصمة لا تنساها، ورغم أن علاقة العمل انقطعت منذ سنوات طويلة، ورغم تقصيري الشديد في التواصل معه، فما زال هذا "القائد" حاضراً، أتذكره كلما طبقت شيئاً تعلمته منه، أو واجهت موقفاً محيراً، فأجدني تلقائياً أسأل نفسي لو كان هو في ذات الموقف، كيف سيتصرف؟ فأجد الإجابة فوراً.
كنت بصدد تعيين موظفين جدد، وسألت أستاذي ما أهم صفة عليَّ أن أبحث عنها في المتقدمين؟ فنصحني أن أنظر إلى السمات والمهارات الشخصية، وليس فقط إلى المؤهلات العلمية، والمهارات الفنية، وقال: "عيني ناس كويسة، كل حاجة تانية ممكن بالتدريب يكملوها"، اتبعت نصيحته، ويشهد الله كم أفاد العمل من تلك النصيحة، وكم استفاد أشخاص عديدون في كل مكان عملت به بعد ذلك، من منحوا فرصة أن يزدهر مستقبلهم، وأن يسيروا في طرق ربما لم يفكروا فيها، وأن يبلغوا نجاحات ربما لم تخطر على بالهم، أفخر بهم، ولديّ شبه يقين أن هذا الرجل يناله ثواب كل هؤلاء الذين لا يعرف عنهم شيئاً، ولم يلتقِهم أبداً، ومع ذلك تغيرت حياتهم بسبب كلمات نصحني بها يوماً ما.
يقول آدم غرانت في كتابه "الأخذ والعطاء": ليس كل الناس سواء، ينقسم البشر إلى ثلاثة أنواع: مستغلون، وأهل مساواة، وأهل معروف.
المستغلون: هم من تقوم علاقاتهم على الاستفادة من الطرف الآخر أقصى استفادة، بلا عطاء، وإن أعطوا فأقل القليل، وقناعاتهم أن ذلك أقصر وأكفأ الطرق لتحقيق أهدافهم.
أهل مساواة وعدل: هم من يعاملون الآخرين بما يستحقون، فهذه بتلك، إذا أخذوا منحوا، وإذا أعطوا انتظروا المقابل.
أهل معروف: هم ندرة من الناس، من جُبلوا على حب المساعدة، ومن أبرز سماتهم أنهم "معلمون" بطبيعتهم، بتلقائية ينصحون ويوجهون ويشاركون غيرهم تجاربهم وخبراتهم وما تعلموه دون انتظار لمقابل.
تقول أبحاث غرانت، التي أجراها في دول مختلفة وعلى وظائف مختلفة، إنه رغم أن أهل العطاء موجودون بكثرة في قاع السلم الوظيفي لكونهم ضحايا للمستغلين أو مستنزفين في مساعدة من حولهم، إلا أنهم أيضاً موجودون بكثرة على قمم النجاح.
وفي تفسير ذلك يقول غرانت: في مجال كالمبيعات مثلاً، كان الأنجح بين مسؤولي البيع، أولئك الذين يهتمون فعلاً بمصلحة عملائهم، حيث يؤدي ذلك إلى كسب ثقة هؤلاء العملاء، فينعكس ذلك في علاقة ولاء حقيقية بين العميل ورجل البيع.
يصل أهل العطاء إلى القمة دون سعي لها، وغالباً على يد أهل العدل، فتلك الفئة هي التي تحدث التوازن، هي من تكافئ من يعطي وتعاقب المستغل.
يحكي غرانت في الكتاب عن "بيتر أوديت" وهو مستشار مالي، معطاء وخدوم، يساعد كل من حوله، وعندما احتاج إلى تعيين مساعد له، تقدم العديد من الأشخاص واختار واحداً منهم، ثم أمضى بيتر باقي يومه محاولاً إيجاد وظائف لكل من تقدموا للوظيفة ولم يقبلهم.
كثيراً ما تسببت طيبة بيتر في خسائر مادية له، فمثلاً تطوع مرة لمساعدة صديق موشك على الإفلاس بأن اشترى منه "عملاؤه" بعشرة آلاف دولار؛ ليفاجأ بيتر بعدها بشهور أنه يخسرهم واحداً تلو الآخر، ثم يكتشف بالصدفة أن صديقه عاد لسوق العمل و"يسرق" منه نفس العملاء الذين اشتراهم منه بيتر لينقذه!
ليست هذه القصة الوحيدة في حياة بيتر لعطاء دفع ثمنه غالياً، ومع ذلك لم تتسرب المرارة إلى نفسه؛ حيث لا يرى نفسه فقط ناجحاً في عمله، بل يرى أن شخصيته المعطاءة هي سبب نجاحه، وأن الناس تلتف من حوله بسبب هذه الطباع.
من يعطي قد يعرض نفسه للألم والخسائر على المدى القصير، لكن على المدى الطويل يبني رأسمالاً من علاقات إنسانية حقيقية وطيبة، وهي من أهم أسباب نجاح الإنسان وشعوره بالرضا عن ذاته.
من القصص الجميلة في الكتاب أن أحد العملاء اتصل بمكتب بيتر وطلب أن يراجع حساباته، ووفق ما تركه من بيانات بدا العميل كصاحب ورشة "خردة" بسيطة في مكان ناءٍ، كان من رأي زملاء بيتر أن الموضوع لا يستحق أي اهتمام، وأن تكلفة الانتقال حتى مكان تلك الورشة قد يفوق ما يحصل عليه من أجر، لكن شخصاً كبيتر لا يمكنه تجاهل أي عميل أو احتقاره. فتجشم مشقة الذهاب إلى تلك الورشة ليفاجأ بأن الرجل يملك ثروة كبيرة وشبكة أعمال أكبر مما تخيل، وقام الرجل بمضاعفة أجر بيتر مئة ضعف مكافأة على كرمه وتجشمه السفر رغم تصوره أنها ورشة صغيرة.
استمر بيتر يساعد من لا يستطيعون مساعدته وكثيراً ما فاجأته الأيام بما لم يتوقع ورد هؤلاء الجميل، وبمساعدة غرانت تعلم بيتر أن يحمي نفسه، بأن يسأل نفسه قبل أن يعطي: "مَن هذا الشخص؟ هل هو من أهل العطاء؟ أم المساواة؟ أم مستغل؟".
يقول غرانت إن المستغلين يكونون شبكات كبيرة من المعارف؛ لأنهم "يحرقون" الجسور باستمرار، ولابد من وجود بدائل لمن يتم استهلاكهم من البشر.
الشبكات الاجتماعية لأهل المساواة أضيق من شبكات المستغلين؛ حيث تنحصر علاقاتهم ودوائرهم الاجتماعية فيمن أعطوهم في السابق، أو من يتوقعون منهم العطاء في المستقبل.
أما أهل العطاء فشبكاتهم الاجتماعية كبيرة لكنها مختلفة عن شبكات المستغلين، فعندما يلتقي شخص معطاء بشخص آخر يسعى تلقائياً إلى معرفة كيف يمكنه مساعدته؟ وتنبني العلاقة حول هذا السؤال! لذلك تدوم علاقاتهم عبر السنين، فمن يعطي يزرع في علاقاته شيئاً طيباً يبقيها حية حتى بعد انتهاء أسبابها أو ظروفها.
ولا تخلو الحياة من مستغلين يتخفون في ثياب العطاء، ففي دراسات غرانت على رؤساء مجالس إدارات شركات كبرى، يقول إنه من السهل كشف المدعين للعطاء، فحتى زلات اللسان تفضح ما في النفوس، يكثر المدعي من الحديث بعبارة "أنا".. عوضاً عن "نحن"، وفي الصور المهنية، تراهم وحدهم وكأنما هم "الشركة".
ولكيث كامبل دراسات أخرى مكملة تقول إن حتى حساباتهم على الفيسبوك تفضحهم، فرغم أنهم واعون جداً لتصرفاتهم، ويبالغون في تملق من يحتاجونه وتجاهل من لا يحتاجونه، فإنه لا يمكن للإنسان أن يدعي طوال الوقت وفي كل التعاملات، ورغم الحرص على رسم صورة كاذبة للعطاء، إلا أنهم مكشوفون جداً في عيون أقرانهم ومرؤوسيهم، وبمعنى أدق في العلاقات التي تنعدم فيها فرصة استفادتهم من الطرف الآخر.
يحضرني هنا رد غاندي على سؤال لشابة مقبلة على الزواج عندما سألته كيف يمكنها الحكم على خاطب تقدم لها، فأجابها غاندي قائلاً: "لا تحكمي عليه من طريقة تعامله معك، لكن من طريقة تعامله مع الخدم".
في التاريخ نماذج عديدة لمن نجحوا نجاحاً "فردياً" منهم المعماري الشهير فرانك لوليد الذي يعد من عباقرة الفن المعماري في عصره، اكتشف فرانك أن المهندسين العاملين معه يحصلون على عملاء بسبب عملهم معه؛ حيث يلجأ إليهم العملاء لانخفاض أجورهم مقارنة بأجره، ثارت ثائرة فرانك لذلك، فأصدر تعليمات يمنع فيها مهندسيه أن يعملوا أعمالاً تخصهم، وأن أي عمل يصممه المهندس حتى لو لم يمسه فرانك يوضع عليه توقيع فرانك قبل توقيع المهندس واضع التصميم!
ونتيجة لتلك السياسات استقال العديد من المهندسين الموهوبين وخسرهم فرانك، وبقي تراث فرانك لوليد بلا وريث فكري، فلم يتبنَّ أو يرعَ أياً ممن عملوا معه، كما فعل بعض أقرانه من أساطين الهندسة المعمارية.
ومثل فرانك لوليد في المعمار، كان جوناس سالك مكتشف لقاح شلل الأطفال، كان يعمل مع جوناس فريق عمل كامل حتى توصل للقاح، لم يشركهم جوناس في نجاحه، فانفضوا عنه مع شعور بالمرارة، وبقي هذا إنجازه الوحيد اللافت للنظر.
لوليد وجوناس نماذج للنجاح الفردي الأناني، ربما لم يكونوا مستغلين مئة بالمئة، لكنهم قطعاً لم يكونوا من أهل العطاء حتى وإن أفاد الناس من أعمالهم.
أهل الفضل والمعروف لا ينسبون النجاح لأنفسهم بل للآخرين، ومن المؤشرات التي رآها غرانت للنماذج المعطاءة في المديرين أولئك الذين ينتقلون من شركة لأخرى ومع ذلك تظل لهم علاقات طيبة بمرؤوسيهم السابقين، رغم انتهاء العلاقة الوظيفية.
من يعطون حقاً لا يسعون إلى المجد الشخصي، يهمهم نجاح الفكرة ذاتها، يسعدهم أن تتحقق وأن تصل إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، حتى وإن جاوزتهم، يسعدهم أن تؤتي ثمارها وإن لم يستفيدوا بكل ثمرة، ولم يكتبوا أسماءهم عليها كما أراد لوليد ببخله أن يفعل!
من يعط ويعمل على قدر استطاعته، قد تصل نيته الطيبة بعمله لأبعد من خياله، فتنبت ثمرة خيره في حقول بعيدة لا يراها، يبقى أثره في آخرين ربما نسيهم، وينال ثناءً صادقاً من القلب وإن لم يسمعه، ودعاءً بظهر الغيب ربما ممن لا يعرفه ، أو كما قيل "البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان"، فكُن مع الذين قلوبهم حية، ولن تندم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.