التكريم هو إعطاء الإنسان الكرامة اللائقة به ككائن حي تمييزاً عن غيره، وتحفيزاً ومكافأة للشخص أو الكائن المكرم ودافعاً له ولغيره لمزيد من العطاء والبذل والمحافظة على الصفة أو الخاصية المكرم من أجلها. وقد يكون التكريم مادياً أو عينياً أو معنوياً، ما يشكل عامل إطراء وتشجيع له بأن إبداعه محط تقدير وإعجاب الآخرين، كي يواصل تقديم المنجزات المتميزة التي تخدم الفرد والمجتمع. والتكريم حق لمن يستحقه عن جدارة واستحقاق. وأصدقكم القول إنه لا بدَّ أن نحفظ للتكريم والمكرمين هيبتهم وتمييزهم واحترامهم، ذلك أن البعض من حفلات التكريم ببلادنا تُقام لتلميع مؤسسات أو شخوص من الجنسين وإظهارهم على غير حقيقتهم في زمن الانتصارات الكاذبة والتكريمات الكاذبة.
ألم يحِن الوقت لإعادة النظر في طرق وأساليب تنظيم حفلات التكريم والتتويج والعرفان، التي باتت منتشرة داخل المؤسسات العمومية والخاصة؟ ألم يفطن هؤلاء المنظمون إلى أنهم يسوقون لوهم الإنصاف والامتنان، ويخذلون الفئات المكرمة والمتوجة، بالركوب عليهم، من أجل الظهور بمظاهر المؤسسة المواطنة والمتفوقة والجادة عوض التسويق للكفاءات والقدوات والقيادات الجادة داخلها؟، ألم يحِن الوقت للكف عن تلميع صور المؤسسة ومالكها أو رئيسها، والاكتفاء بإعطاء المكرمين والمتوجين النصيب الأكبر من الحفاوة والترحاب، لأنهم عرسان الحفل ورواده؟، وهل ما يحدث اليوم بخصوص حفلات التكريم التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية يأتي ضمن المعايير المعترف بها وفق خطوات تجعل من التكريم مستحقاً؟
ففي بعض الدول والبلدان، تقدر إبداعات وإنجازات علمائها ومفكريها ومثقفيها وقادتها وتقام لهم حفلات التكريم على مستوى الوطن، وتجري عملية الاختيار والتكريم لهم بناءً على معايير لجان ذات اختصاص وكفاءة ومهنية في مجالاتهم المختلفة، وتمنح لهم الأوسمة والجوائز التقديرية عينية أو مادية، وكذلك هو حال المؤسسات التي تكرم من هو متميز في الأداء والعطاء والإنجاز والإبداع من العاملين/ات فيها، وتبقي على التخوم والفواصل بين من هو مبدع ويستحق التكريم على إنجازه وعطائه وبين من هو عكس ذلك، حتى يشكل حافزاً له لكي يجد ويعمل وينجز ويبدع، لكي ينال شرف التكريم والحصول على الجائزة، وبغض النظر عن قيمتها مادية أو عينية، فهي شهادة اعتزاز وافتخار لهذا الشخص بأنه حقق وأنجز وأبدع، وهناك من كرمه وكافأه على ذلك.
وتبعاً لذلك، لا يصح التساهل مع من يريد أن ينسف معايير التكريم بحجة أنه لا يلحق الضرر بأحد، والحقيقة أن هناك أضراراً واضحة، ولعل أشدها وضوحاً فقدان القيمة المعنوية الاعتبارية للتكريم، بسبب كثرة الجهات الوهمية التي باتت تنثر الشهادات التقديرية على رؤوس أعداد كبيرة من الأسماء التي لا تقدم ولا تؤخر ولا علاقة لها بعالم الإبداع. فلا يحق لكل من هبَّ ودب أن يزج بنفسه في أعمال التكريم، حتى لا تتحول العملية إلى نوع من التهريج والشكلية، والترويج المفتعل لشخص ما أو أسم معين أو جماعة، تسيء لمقاصد التكريم والمكرمين بدلاً من أن تخدمهم.
فالشفافية توجب اختيار من يستحق التكريم على نحو عادل، لأن العدالة في التكريم تعد من أهم المعايير التي ينبغي الالتزام بها بصورة تامة. فضلاً عن أن الجهة القائمة بالتكريم يجب أن تكون ذات تاريخ يؤهلها للقيام بهذه المهمة، وقدرتها على التكريم بما يحفظ ويوازي القيمة الإبداعية الثقافية أو الأدبية أو الفكرية التي يتحلى بها العنصر المستحق للتكريم. وكذلك ينبغي أن تكون أهداف التكريم واضحة، وجهات التمويل معروفة أيضاً، لأن التكريم قد يكون مبطّن الأهداف، بمعنى ربما ما يظهر منه غير ما يختفي تحت السطح، وهذا يعني أهمية أن يكون الهدف من التكريم إبداعياً بحث، ولا يهدف إلى شراء المبدع أو ضم رأيه وصوته إلى جهة التكريم، فهناك من يريد أن يجمَّل اسمه ويروج لأفكاره ومآربه من خلال تقريب الأسماء والشخصيات الإبداعية المتميزة.
ومن العوامل التي ساعدت على ضياع معايير التكريم، بعض وسائل الإعلام الحديثة، لاسيما مواقع التواصل الاجتماعي، واستغلالها لتحقيق بعض الأهداف المشكوك بها في هذا المجال، فهناك جهات وربما أفراد لا تنطبق عليهم شروط التكريم، صاروا يمنحون الشهادات التقديرية ويضعون فيها إمضاءهم باعتبارهم يرأسون المؤسسة أو المنظمة أو الجهة الثقافية التي قامت بالتكريم، وعندما ننظر إلى منجز هذه الجهة ومن يرأسها، سنلاحظ أنها لا تمتلك أياً من شروط تكريم المبدعين، علماً أن ضياع المعايير هنا لا يتعلق فقط بمن يمنح التكريم، وإنما بمن يتم تكريمهم على أنهم مبدعون، وهم لا علاقة لهم بالإبداع من بعيد أو قريب.
فما أن تتصفح هذه المواقع حتى تفاجئك هذه الجهات المانحة للتكريم، وعندما تحاول أن تطلع على تاريخها، وتاريخ القائمين عليها، سوف تجد غياباً تاماً للمنجز الذي يتيح لها أحقية تكريم المبدعين أو المسؤولين، كذلك لو أننا دققنا في الأسماء التي يتم تكريمها، سنجد أنها لا تمتلك ما يجعل منها متميزة إبداعياً أو إدارياً أو تربوياً.
فبين فينة وأخرى تُنشر أخبار عن تكريم هذا الشخص أو تلك المرأة لما قدمته من خدمات أو قدمه من عطاء لهذه المدينة أو للوطن. وفي التكريم يتم تمجيد "المكرم" ومدحه ونفخه إلى أبعد ما يكون، حيث يتكلف جيش المطبلين والمزمرين والمتملقين بتحويل حفلات التكريم إلى محافل للتندر والإسفاف والابتذال، عندما يُمعنون في المديح الزائف والثناء وتزييف الواقع وقلب الحقائق، وإضفاء صبغة وصفة كاذبة، على من لا يستحق التكريم أو حتى الثناء. والحقيقة أنه بدل تكريمهم كان يجب مساءلتهم ومحاسبتهم ومعاقبتهم، ما يجعل الأهداف التي تقف وراء مثل هذا التكريم غير واضحة.
لا اعتراض على التكريم، فهو تَصرف أو أسلوب حضاري من أجل تشجيع التميّز والابداع في أي وطن. ولكننا نعترض وبشدة على اختيار المكرم، لأننا نصدم بأن من تم تكريمه لم يفعل شيئاً مميزاً، ولم يقم بتقديم العطاء اللازم، فهناك العشرات الذين يستحقون هذا التكريم أو هذه الجوائز، ولكنهم لم يحصلوا عليها. لدرجة أن النساء كان لهنَّ حصة الأسد من هذا النوع من التكريم! (على أننا نجلّ ونحترم الأسماء المبدعة)، مع أننا غالباً ما نكون إزاء أسماء غير معروفة يشملها التكريم، وعند البحث عن المنجز الإبداعي لهنّ فإننا لا نعثر على شيء يذكر، أو ربما نعثر على كتابات أولية لا تفوق جهد من يشق طريقه في يومه الأول لدخول عالم الإبداع الكتابي. وقد يتساءل المرء لماذا؟ والسبب لأن هناك ظلماً! ولأن هناك محسوبيات! ولأن هناك وساطات وتدخلات ومصالح عديدة!
فما يحصل اليوم وصل درجة الإسفاف والابتذال، حتى إن المبدع والمنجز والمضحي الحقيقي بات يخجل من نفسه عندما يدعى لحفل تكريم، أو سيجري تكريمه مع آخرين، هم /ن ليس لهم/ن علاقة بالإبداع والإنجاز والتميز، وتشعر بأن هذا ليس تكريماً أو تقديراً لهذا المبدع أو المنتج أو المفكر أو الروائي أو القاص، بل هو يشعره بأنه لا مبدع ولا متميز، فهو وضع على قدم المساواة مع من ليس علاقة له /ا بالإبداع والتميز، وهو في داخله يشعر بالقهر، وربما يصبح ناقماً وحاقداً على كل ما له علاقة بالإبداع والتميز، طالما أن العلاقة الشخصية والحزبية والمال والمصلحة والمنفعة المتبادلة، وليس الكفاءة والمهنية والإبداع والتميز، هي من تحدد من هو المبدع/ة والمتميز/ة.
وكثيراً ما نسمع عبارة "مللت من التكريم" التي تعكس حالة التململ لدى المتميزين من تكرار تكريمهم بتقديم الدروع التذكارية لهم والتي غالباً ما ينتهي بها المطاف في زاوية داخل المنزل ثم نسيانها أو ضياعها، الأمر الذي يفقد التكريم الفرحة في قلوب أصحابه والملل منه لدرجة أن الكثير من المكرمين ينيبون غيرهم لتسلم الدروع التذكارية أو شهادات التقدير والتي حفظت رسومها والعبارات المكتوبة بها. وقد سلط الفيلم التلفزيوني الكوميدي "التكريم"، من إخراج حميد زيان سنة 2019، وبطولة كل من محمد خيي، نعيمة المشرقي، ياسين أحجام، رجاء خرماز، سناء بحاج، وآخرين، (سلط) الضوء على ظاهرة تكريم المبدعين من قِبَل الجمعيات المنظمة للتظاهرات الثقافية والفنية، والتي عادة لا تكون في حجم انتظارات المحتفى بهم.
ويتحدث الفيلم عن "سرحان النورس"، كاتب روائي راكم العديد من الإصدارات، يتوصل بدعوة من طرف إحدى الجمعيات الثقافية لتكريمه بالدار البيضاء قصد حضور حفل تكریمه، تتويجاً لمساره الإبداعي. وهو في طريقه إلى الحفل التكريمي، يبدأ الكاتب يتخيّل سيناريو التكريم، وأشكال الهدايا التي يمكن أن تقدّم له، هدية وتقديراً على تجربته روائياً وكاتباً معروفاً، خاصة أنّ معاناته المادية كانت قد لازمته خلال سنواته الأخيرة. وبعد الثناء على مساره الأدبي ومكانته في الحقل الثقافي، يتوصل الكاتب بسجاد (زربية مغربية) وباقة ورد، ليجد نفسه بعد نهاية الحفل في ورطة وهو يحمل سجادة، لم يقدر على حملها والتنقل بها من مكان إلى آخر.
وقد تذكرت حفل تكريم أستاذة جامعية بمناسبة وصولها سن التقاعد من طرف عمادة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، بمدينة فاس المغربية، تحول تكريمها إلى موضوع للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب الهدية التي قُدمت للأستاذة المكرّمة، والتي كانت عبارة عن وعاء معدني لتقديم الشاي (صينية)، في الوقت الذي وجّه فيه العديد من رواد تلك المواقع سهام النقد إلى الجهة المنظمة لحفل التكريم، عبر تعليقات لا تخلو من تهكم وسخرية. ووفق "هسبريس"، فإن تعليقات أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي اعتبرت أن الهدية التي قدمت للأستاذة المكرمة والطريقة التي قدمت بها بمثابة فضيحة تُحيل إلى البكاء والضحك في آن واحد، على اعتبار أن رمزيتها وطريقة تقديمها لا تتلاءم أبداً مع مكانة شخصية أكاديمية عُرفت داخل أوساط الطلبة وزملائها الأساتذة بكفاءتها العالية، كما ظلت شخصية تتميز بمحاضراتها القيمة والمفيدة.
والأمر ذاته عاشته غرفة الصناعة التقليدية بمدينة أكادير، عقب قيام هذه الأخيرة بتكريم إحدى السيدات اللواتي لا علاقة لهن بمجال الصناعة التقليدية، وتسليمها شهادة تقديرية باعتبارها سفيرة للنوايا الحسنة. وبحسب مصادر مطلعة فإن عدداً من أعضاء غرفة الصناعة التقليدية ومنتسبيها أغاظهم هذا التصرف الذي وضع الغرفة في حالة "شبهة"، بتكريم سيدة لا علاقة لها بالمجال، ولا تربطها بالغرفة أية علاقة، إضافة إلى كونها فقط "يوتيوبر" تنشر بعض وصفات التجميل وتكبير المناطق الحساسة وتجميلها.
وما زاد من الاحتقان لدى منتسبي الغرفة أن هذه الأخيرة منحتها قلادة واعتبرتها "سفيرة للنوايا الحسنة"، وشهادة تقديرية تصفها فيها بـ"الدكتورة"، رغم أنها صفة ينظمها القانون، في حين أن المكرمة لا يربطها بالطب أي رابطة، وليست لها أي دكتوراه، سواء في الطب أو الطب البديل أو غيره، الأمر الذي وضع رئاسة غرفة الصناعة التقليدية في وضع حرج جداً، ذلك أن الشهادة المسلمة لـ"اليوتيوبر" موقعة ومختومة من قبل رئيس الغرفة، وفيها صفة "الدكتورة". وقد خرجت السيدة المكرمة عن صمتها، في شريط مصور، واعترفت أنها ليست "دكتورة"، وأنها لا تتحمل مسؤولية ذلك الوصف.
التكريم سنة حسنة يكرم فيها المبدعون والمخلصون، وغالباً ما يحدث ذلك في نهاية مشوار الفرد العملي أو مقابل إنجاز غير مسبوق تحقق للوطن أو للبشرية. وفي نظري فإن أفضل أماكن التكريم يجب أن تنتشر وتتعزز في المدارس، بداية باعتبارها المحضن الرئيسي لغرس المبادئ واكتشاف المواهب وتعزيزها، ثم استمراراً لهذا المحضن تأتي الجامعات ومؤسسات البحث العلمي ومراكزه، التي تهدف في الأساس إلى النظر إلى الأصالة والإبداع والابتكار، باعتبار ذلك موضوعها الرئيسي وغايتها.
ونعتقد أن الجامعات هي أنسب مكان لوضع المعايير والشروط المستحقة للجوائز والتكريمات المختلفة، لأن المناهج العلمية والطرائق الموضوعية تنطلق من مثل هذه المؤسسات الجامعية، كما أنها أفضل بيئة لمعاني ورسالة هذه الجوائز، وتأتي في هذا السياق شهادات الدكتوراه الفخرية والجوائز البحثية المختلفة التي تمنحها مثل هذه الجهات لرموز سياسية أو اقتصادية أو غيرها، فمن يقدم ويبذل جهداً أو أعمالاً تتعدى في نطاقها ما يقوم به عامة أو بسطاء الناس أو المؤسسات الأخرى يحظى بمثل هذا الاستحقاق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.