عندما التقى العالَم بالقاهرة.. قراءة جديدة في قصة السندباد البحري

عربي بوست
تم النشر: 2023/10/01 الساعة 09:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/10/01 الساعة 10:15 بتوقيت غرينتش
صوةر تعبيرية - shutterstock

ليست مجرد حكاية ممتعة وإن كانت كذلك بالفعل، قصة السندباد البحري التي امتزجت فيها الوقائع بالخيال قد تحكي لنا الكثير إن قرأناها بالعين التي تدقق والذهن الذي يربط.

عبر سفراتهم البعيدة، وجهودهم الدؤوبة المتواصلة، استطاع التجار المسلمون فتح خريطة العالم ووصل أطرافه، وامتلكوا سر الوصول إلى زواياه، تفتّح العالم على أيديهم كوردة، ونهضت علوم كالفلك والجغرافيا، وفنون كصناعة السفن وحفظ الطعام، على وقع فضاء سخي من روائح توابلهم الأخاذة التي جلبوها من الجزر البعيدة.

وفي بغداد قامت مراكز معرفية على تدوين ما يأتي من تقارير على لسان تجار التوابل، وعملت على الاستفادة من تلك المعلومات، فلمعت أسماء عربية في علم الجغرافيا كأبو زيد البلخي، وأبو الريحان البيروني، والإدريسي، الذين استطاعوا بناء دائرة معارف جغرافية رصينة مهدت لازدهار هذا العالم والاهتمام به من العالم أجمع.

وكما تتفتح الشهية تفتح الورود حين تداعبها الروائح السخية والمذاقات الشهية للتوابل، تفتحت الخريطة أمام الإنسان، وبدأ الضباب يتكشف عن دهشة مفقودة.

إننا حين ننظر إلى تلك الرحلة الإنسانية الممتدة، نجدها تتقدم بخطى واثقة ومشتهية في عالم غامض مظلم، لكنها تجد طريقها من خلال المُحفزات التي تبث رسائلها بقوة في روح الإنسان وحواسه، والتي من أهمها وعلى رأسها الطعام.

ووضع المسلمون خبراتهم الجغرافية في كتب ونشرات ليفتحوا أعين الناس على العالم، كابن خرداذبه الذي وضع دليلاً للمسافرين وصف فيه الطريق البحري الذي يبدأ من مصب دجلة عند الأبله، وينتهي إلى بلاد الهند والصين.

وكانت رحلات العرب البحرية تبدأ من بغداد وتسير في الخليج الفارسي حتى تصل إلى شبه جزيرة ملقا (الملايو) في ماليزيا، وكانوا يمرون بعدة موانئ تمكنهم من ابتياع بضائع الهند والصين وغيرها. وجدير بالذكر أن طرائف الصين كانت تباع في سوق خضير بالرصافة.

نشأ الطبخ والحكاية من جذر واحد؛ اشتهاء التوليف، وكما سافر الإنسان ليستجلب جديداً يضيفه إلى طعامه فقد اشتهى أيضاً جديداً يضيفه إلى حكاياته، من هنا نشأت الحكاية العربية في طور جديد بالتزامن مع نشاط الطريق البحري لتجارة التوابل، وبرزت حكايات السندباد البحري، ذلك البحار الذي انطلق من شواطئ الفرات ليجوب العالم، ويحكي لنا عما رآه، اشتملت حكاياته على كثير من المعارف الدقيقة بجغرافيا ما خلف البحار، مع شيءٍ من الغرابة والطرافة والخيال.

وهذه القصص الخيالية الرائعة قد ظهرت في كتاب ألف ليلة وليلة، الكتاب الذي احتوى على قصص أخرى أصلها من الهند وفارس والصين، وقد نُسجت تلك القصص في حبكة درامية ممتعة تدور أحداثها في مدن وحواضر عربية مزدهرة مثل بغداد والقاهرة، وفي البحار البعيدة، والجزر الخلابة.

 ألف ليلة وليلة

يتميز المكان في حكايات السـندباد البحري بتنوعه وثرائه وجمعه بين الواقع والمتخيل، ذلك أن الراوي الشعبي تفنن في الوصف للسـيطرة على لب المتلقي فراح يقدم لنا عالماً غرائبياً مملوءاً بعوالم ما ورائية، تسحر ألباب القراء والسامعين، وحملت الحكايات العناصر الهشة والغرابة وكسر المألوف.

ونُسج سرد الحكايات في فضاء جميل منعش صنو فضاء الجنة، فيه كل ما لذا وطاب من المأكل والمشرب والمشموم والمنظور، وهو أشـبه بالصورة الفنية التي تمثل المنظر الطبيعي الذي يستمد مقوماته من فضاء الجنة، لذلك نجده يتصل بالبساتين والأنهار والحقول الجميلة.

وهذا ما عبر عنه السندباد واصفاً إحدى الجزر "وألقت بنا المقادير على جزيرة مليحة، كثيرة الأشجار، يانعة الثمار مفتحة الأزهار، مترنمة الأطيار صافية الأنهار".

ويقول في وصف جزيرة أخرى "ثم مشيت في تلك الجزيرة فرأيتها كأنها روضة من رياض الجنة، أشجارها يانعة، وأنهارها دافقة، وطيورها تسـبّح من له العزة والبقاء، وفي تلك الجزيرة شيء كثير من الأشجار والفواكه وأنواع الازهار" مثل هذا الفضاء السردي الجميل يأتي غالباً بعد عذاب، ويكون اسـتعداداً لرحلة أخرى، ومن شأن تفتح تلك القدرات الحكائية التي تفجرت من رحلات العرب لجزر التوابل أن تفتح أفق انتظار المستمع، وتجعله دائماً في شوق ليلتقي بمدهشات أخرى.

وتعاظم شأن تجارة التوابل الإسلامية التي انتهجت الطريق البحري، واتخذت من القاهرة مركزاً تجارياً مهماً لها مع مراكز أخرى في اليمن والعراق والشام وسواكن، وازدادت ثراءً وقدرة على تطوير أدائها حتى قام أول تحالف اقتصادي عالمي، وهي مؤسسة تجارية حرة جمعت تجار التوابل، أطلق عليها "الكارمية".

تمت الإشارة إلى الكارمية في وثائق الجنيزة الهامة على أنهم تجار التوابل، الذين سيطروا على تجارة خط المحيط الهندي والبحر الأحمر والقاهرة، ونظراً للاهتمام العالمي بالتوابل حينها فقد جنوا أرباحاً مهولة مكنتهم من تعضيد سلطتهم الاقتصادية، لدرجة أنهم كانوا يقرضون الدول المتعثرة.

وقد ذكرت المصادر العلاقةَ الوطيدة بين السلطان صلاح الدين الأيوبي والكارمية، حيث كانوا يدفعون إليه ما عليهم من زكاة وضرائب، وينسقون معه لحماية البحر الأحمر من حملات الصليبيين وتعسف أمراء الممالك الواقعة عليه، حتى تستمر التجارة المربحة في التدفق دون صعوبات.

وقد استمرت تلك العلاقات الوطيدة مع حكام مصر حتى عهد المماليك، الذي وصلت فيه تجارة التوابل إلى ذروتها بعدما ازدادت معرفة الأوروبيين بها وتكالبهم على طلبها. ورغم ما تقدمه تلك الصورة من إضاءات مدهشة لما كانت عليه تجارة التوابل على أيدي المسلمين، تم تجاهلها إلا من دراسات قليلة.

خلقت تجارة التوابل مجتمعاً منظماً له تقاليد تجارية عريقة وقواعد عمل، وتأثيرات عمرانية وثقافية عديدة. وقد عنيت العديد من أسر الكارمية بالعلم وطلبه كما عنيت بالتجارة. وكان لهؤلاء التجار الذين لم يرضوا بأن يصيروا مجرد باحثين عن الثروة دور في نشر الإسلام واللغة العربية عبر إفريقيا وآسيا.

لقد عملت الكارمية على ازدهار الأقطار التي ذهبت إليها، واتصلوا بكل المجتمعات التي حطوا رحالهم فيها، لذا سنجد حين نتتبع مسيرتهم آثارهم حاضرة في كل قطر إسلامي، من القاهرة إلى اليمن إلى زنجبار، إلى الهند وإندونيسيا وماليزيا والصين.

القاهرة
shutterstock – مسجد ابن طولون في القاهرة

تنفتح القاهرة كصدفة كل حين لتنكشف عن جسد فتان، وغواية حاضرة، كانت القاهرة في العصور الوسطى المدينة المُشتهاة للجميع، للقادمين من الشرق بسلعهم بحثاً عن أرباح وفيرة، وللقادمين من الغرب الباحثين عن الذهب الأسود، الفلفل والتوابل، التقى العالم في القاهرة على وقع مضاربات صاخبة ترتفع فيها الأرقام مع روائح التوابل في خانات مزدانة بشواهد النعيم، شيئاً فشيئاً مات طريق الحرير، وأصبح الطريق البحري مفضلاً عنه، وعلى هذا الطريق نمت تجارة عالمية مزدهرة، صارت معها القاهرة قلب العالم النابض ومركزه التجاري السخي، وبلغت القاهرة ذروة مجدها إبان عهد المماليك، الذين حافظوا على تأمين طرق تجارة التوابل، التي أمدتهم بأموال ملأت خزائنهم عن آخرها، وعملوا على بناء الخانات وتمهيد الأسواق والتنسيق مع تجار الكارمية لتمر التجارة بسلاسة وتدفق.

قصد القاهرة التجار من كل الجهات، من الغرب والشرق والشمال والجنوب، جاءت البضائع من فارس والهند وجزر الملوك وشرق إفريقيا، ومعها الحكايات والأرباح والروائح المشتهاة، لعل هذا الاحتدام هو ما دفع المستشرق البريطاني ستانلي لين بول أن يقول إن القاهرة هي المدينة التي كُتب فيها ألف ليلة وليلة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالله عثمان
محرر وباحث في الأدبيات الاجتماعية
تحميل المزيد