مجتمع المخاطر العالمي.. لماذا نعيش في قلق دائم؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/26 الساعة 10:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/26 الساعة 10:14 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية - shutterstock

الحداثة، التي كان يُنظر إليها على أنها "منقذة العالم" بدعوى أنها حررت البشرية من الحدود التقليدية، تواجه اليوم أشد الانتقادات لأنها تدفع البشرية إلى عالم مليء بالمخاطر الناجمة عن التقدم التكنولوجي. العواقب العشوائية وغير المتوقعة لانتصار الحداثة تُشكل الديناميكيات الرئيسية لصورة حاضرنا. 

تطرق عالم الاجتماع الألماني "أولريش بيك" إلى مشاكل العولمة والفردية والأزمات البيئية والمناخية والتغيرات في علاقات الإنتاج وغيرها في كتابه الأكثر شهرة "مجتمع المخاطر.. نحو حداثة جديدة" الذي صدر في عام 1986. ويتحدث "بيك" في كتابه عن الحالة الحديثة للعالم، التي وصفها بـ"مجتمع المخاطر".

مجتمع المخاطر

تتداخل البشرية مع المخاطر منذ يوم وجودها. ومع ذلك فإن ضرورة تمييز عالم اليوم وتسميته "مجتمع المخاطر" وفصله عن الماضي، يبين لنا في الواقع أن الأمر يتضمن نقطة تحذيرية حساسة ومهمة جداً.

ويمكننا اعتبار مسألة تمييز عالم اليوم وفصله عن الماضي أهم مساهمة لـ"أولريش بيك" في عالم الأدبيات والمؤلفات، حيث يوضح لنا إدراكه أن مخاطر اليوم تختلف عن المخاطر الطبيعية في المجتمع الحداثي وما قبل الحداثي.

فالمخاطر التي تواجهها مجتمعات ما بعد الحداثة لا تعد طبيعية؛ لأنها مخاطر ناشئة عن بنية المجتمعات نفسها، وعلى وجه الخصوص المخاطر البشرية الناشئة عن عملية صنع القرار البشري.

ويرى "بيك" أن الكوارث الطبيعية التي يتعرض لها العالم على نحو دائم، بالإضافة إلى استخدام المعرفة والتكنولوجيا بشكل غير صحيح وضار، تؤدي إلى تعرض العالم بأسره للمخاطر، وتشكيل مجتمع المخاطر العالمي. هذا المجتمع العالمي الذي يكون وسيكون منشغلاً على نحو متزايد بمناقشة ووقاية وإدارة المخاطر الذاتية التي ينتجها.

وتتميز المخاطر التي يواجهها "مجتمع المخاطر" بسمتين محددتين، حسب وجهة نظر بيك:

1- عالميتها (يصل تأثيرها إلى كافة أنحاء العالم). 

2- كونها خفية، ولا يمكن رؤيتها.

السمة الأولى لمجتمع المخاطر: عالميتها

يقول "بيك" إن "المخاطر التي تواجه "مجتمع المخاطر" الذي حل مكان المجتمع الصناعي، لم تعد تؤثر في مجموعة ومنطقة محددة فحسب، بل باتت تشمل كل المجتمع العالمي".

أدت التحولات التي بدأت بالتزامن مع عولمة الاقتصاد إلى عولمة كل شيء بما فيها عولمة المخاطر، ما أدى إلى تشكيل مخاطر عابرة للحدود كظاهرة الاحترار العالمي والتهديدات النووية والنفايات الكيميائية الخطرة، حسب ما يرى بيك.

من جهة أخرى، وبسبب أن المخاطر عابرة للحدود، فمن الممكن أن تخرج عن السيطرة. على سبيل المثال، إن محاولة شركة متعددة الجنسيات تنتج مواد غذائية تحتوي على الهرمونات تجاهل وترك الأرباح التي تحققها وتحويلها إلى خط خاضع للرقابة ستكون محاولة عقيمة إلى حد ما.

المخاطر اليوم تهدد العالم بأسره، فهي متعددة الأطراف الفاعلة وذات تداعيات مستقبلية شديدة، إذ ستبقى إرثاً سيئاً للأجيال القادمة، وهو ما يدق ناقوس الخطر في العالم. وكان فيروس كورونا مثالاً واضحاً على هذه المخاطر، فقد انتشر الفيروس في جميع أنحاء العالم بسرعة كبيرة وعلى نحو عشوائي، ومازلنا نعيش في تداعياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية حتى اليوم.

بالإضافة لذلك، لا أحد آمناً، جميع الطبقات مهددة، فعلى الرغم من استمرار ديناميكيات الرأسمالية (على سبيل المثال، بينما كان الأغنياء بإمكانهم الفرار إلى أماكنهم الآمنة، استمر العمال في الذهاب إلى العمل يومياً بواسطة وسائل النقل العام)، إلا أن الفيروس قد عرض جميع أفراد المجتمع لخطر كبير دون التمييز بين الأغنياء والفقراء.

النشأة في مناطق ملوثة الهواء مرتبطة بمشكلات الصحة النفسية - مجتمع المخاطر

ومثال آخر على ذلك، التهديدات الناجمة عن ظاهرة الاحترار العالمي أو الخطر المحتمل لنشوب حرب نووية لا يشعر فقط أفراد الطبقة الدنيا بالمخاطر والقلق إزاء ذلك، بل أيضاً أفراد الطبقة العليا. ومن المستحيل الهروب تماماً من المخاطر التي تواجه "مجتمع المخاطر"، ولا تعمل المتغيرات النوعية، كالجنس والعرق والحالة الاجتماعية وغيرها، كدرع حماية ضد هذه المخاطر. فقد وصلت تأثيرات المخاطر في عصر العولمة إلى العالم بأسره، واجتازت العالم الداخلي لجميع أنواع الأفراد. أصبحت المخاطر عالمية وأسرع في الانتشار، وشديدة التأثير على الفرد أينما يقع.

السمة الثانية لمجتمع المخاطر: كونها خفية ولا يمكن رؤيتها

المخاطر التي تشكلها الحداثة ولا يمكن رؤيتها هي الغازات الضارة المنتشرة في الهواء الذي نتنفسه، والفيروسات، والمواد الضارة في الطعام الذي نستهلكه… إلخ.

وصف بيك هذه المخاطر بـ"مملكة الظل"، التي تمثل المخاطر الكامنة وراء العالم المرئي اليومي، حيث لم تعد المخاطر مرئية للعين المجردة، والمعرفة العلمية ضرورية لفهمها. على سبيل المثال، لا يمكننا فهم الآثار المترتبة على وجود الرصاص في مياه الشرب لدينا ولا يمكننا الشعور به. والأمر الوحيد الذي يجعلنا ندرك المخاطر هنا هو التفسيرات العلمية للخبراء.

وهنا ينشأ شعور بأن الخطر غير مفهوم، ويترتب على ذلك شعور بعدم الكفاءة في استيعاب التهديد. ويؤدي ذلك إلى حدوث تغير في تخمين المخاطر لدى الإنسان، ويصبح عاجزاً في مواجهة المشاكل العالمية التي لا يستطيع التعامل معها بعقله.

ويرى "بيك" أن الشكوك تتزايد لدى البعض في أن العلماء لا يقولون سوى حقائق جزئية، أو أن الصناعة قد اشترتهم، أو أنهم ينحازون سياسياً. وبالتالي يترك انعدام الثقة بالعلم فراغاً يمكن ملؤه بسهولة بالمعلومات الخطأ والمضللة، وغالباً ما يترتب على ذلك عواقب مروعة، كما أظهرت التجارب العملية الأخيرة على الحلول والعلاجات المنزلية التي أجريت لمكافحة الوباء.

مجتمع المخاطر
وزيرة الصحة المصرية / رويترز

الإنسان في مجتمع المخاطر.. أفراد ومؤسسات الزومبي


الفرد، الذي يدرك أنه قد يواجه أي خطر في أي لحظة، يبقى في حالة دائمة من انعدام الأمن، ويشعر بالشك والانزعاج إزاء مواجهة المشاكل العالمية والمعقدة. فالقلق الذي ينتاب الأفراد ولا يمكن عزوه إلى أسباب محددة، يجعل الأفراد يميلون إلى الانطواء. كما يفقدون القدرة على التصرف في عالم محفوف بالمخاطر.

ويركز بيك في كتابه "مجتمع المخاطر العالمي" الذي صدر عام 1998، على المرحلة التي أوصلتنا إليها "الحرية غير المحدودة" اليوم، إذ يقول:

"تتصاعد "الأنا" الشرسة والخائفة والضعيفة من الأفراد الذين يبحثون عن الحب والمساعدة في رماد الأعراف المجتمعية الغائبة. وأثناء بحثهم عن جوهرهم وحبهم الاجتماعي، يضلون طريقهم في غابة الذات. فالفرد الذي يحاول أن يجد طريقه بين ثنايا نفسه، سيصبح في وضع لا يسمح له بإدراك أن هذه العزلة "الحبس الانفرادي" الذي تتعرض له "الأنا" هي في الواقع عقاب جماعي".

يقدم بيك مفهوماً آخر يوضح حالة العزلة لدى الأفراد: مؤسسات الزومبي. ويقصد المؤسسات الاجتماعية التي ماتت منذ زمن طويل وفقدت وظيفتها على فهم الحقائق. فأصبحت مؤسسات الدولة القومية، الطبقات الاجتماعية، العلاقات الأسرية والجيرة، عاجزة وغير قادرة على مد الفرد بتفسيرات عن العالم.

بينما في كتابه "إعادة اختراع السياسة: إعادة النظر في الحداثة في النظام الاجتماعي العالمي" الذي صدر عام 1997، يقول "بيك": "بينما يعيش الأفراد بسبب العولمة في كل خطوة على درجات السلم الاجتماعي والاقتصادي حياة متنقلة وعالمية عابرة للحدود الوطنية، تحولت الدولة القومية إلى فئة من فئات الزومبي، وباتت كغطاء مكشوف وضعيف. غالباً ما يجد الناس أنفسهم محاطين بأكثر من إطار وطني في آن واحد، وغالباً ما يضعهم كل إطار من هذه الأطر في مواقف معاكسة (المهاجرون والاقتصاديون المثال الأوضح على ذلك).

وقد حازت الأسرة على نصيبها من هذه التغييرات، وذلك في ظل التمدن، وتغير أشكال الإنتاج واختلاف ظروف العمل، وتوسيع المشاركة في التعليم، والتغيرات الملحوظة في الهيكل الديموغرافي، بالإضافة إلى الهياكل والأشكال المتغيرة للمؤسسات التي تكفل سلامة المجتمع.

إن هيكل التقسيم العالي للعمل الناتج عن زيادة التحضر ونشأة علاقات الإنتاج الجديدة قد غير إلى حد بعيد هيكل الأسرة، التي كانت تعيش حياة مماثلة في الريف، وتتكامل حول العمل المشترك.

فنرى اليوم أن أفراد الأسرة الواحدة يعرفون القليل عن حياة بعضهم، لذلك يميل كل فرد إلى التقدم في الحياة بشكل شخصي، ما يزيد الشعور بالاغتراب على المستوى الفردي والمجتمعي. فأفراد الأسرة الواحدة الذين ليست لديهم معرفة عميقة ببعضهم، كيف ستكون لهم معرفة بالأفراد خارج العائلة؟ بهذا الشكل ربما يتأثر التضامن والترابط بين الأفراد بشكل عام.

فحالات الطلاق التي ترتفع بنسق تصاعدي في جميع أنحاء العالم، ومعدلات الزواج التي تنخفض بشكل واضح، هي دليل مؤلم على أن الأسرة تفقد مهامها يوماً بعد يوم. فوفقاً للإحصائيات نجد أن نسبة الطلاق العالمية ارتفعت من 12% عام 1960، إلى نسبة 48% في عام 2022.

وأثناء مقابلة أجراها "بيك" عام 1999، قال:

"لنسأل أنفسنا ماذا يتبادر إلى أذهاننا عندما نفكر في العائلة اليوم؟ وماذا تعني لنا الأسرة؟ بالطبع يوجد أطفال ضمن الأسرة، ومع ذلك، حتى الأبوة والأمومة، التي تشكل جوهر الحياة الأسرية، بدأت تفقد تأثيرها وتتفكك في ظل ظروف حالات الطلاق الكثيرة… يعتبر الأجداد جزءاً من الأسرة، لكن ليست لديهم وسيلة للمساهمة في القرارات التي يتخذها أبناؤهم وبناتهم".

بالتالي في ظل غياب السلطة المؤسسية الناجم عن غياب المؤسسات القديمة كالعائلة التي كانت تعمل كمصدر للتضامن والسلطة المرشدة، يُترك الفرد لرعاية نفسه بمفرده.

تركيا كمثال

يتعامل العالمان الشرقي والغربي مع مفهوم الأسرة بشكل مختلف. فالمجتمعات الشرقية تولي أهمية وأولوية للأسرة أكثر من المجتمعات الغربية. وكانت المجتمعات التركية منذ نشوئها تعمل على الحفاظ على مفهوم الأسرة. وبما أن المجتمعات التركية تشترك في خصائص مماثلة مع العديد من المجتمعات الشرقية الأخرى لذلك يمكن أخذها كمثال نحلل ما ذكرناه أعلاه بتفاصيل أكثر.

أول تغيير شهدته الأسرة في تركيا، عند تحول المجتمع الزراعي والريفي إلى مجتمع صناعي حضري، حينها فقد الريف جودته كوحدة اقتصادية متكاملة. وأصبحت الأسرة الكبيرة التي كانت تنشأ على محور العمل والإنتاج والاستهلاك مع بعضها في الريف، باتت اليوم منفصلة وفردية بشكل متزايد من ناحية المعيشة والإنتاج والاستهلاك في المدينة، ويعود ذلك إلى إختلاف إطار التقسيم الوظيفي للعمل في المدينة.

وانطلاقاً من هذا المنظور، حدث انتقال سريع من "الأسرة الموسعة" المكونة من الأجداد والعمات والأعمام وأبناء العم الذين يعيشون جميعاً بالقرب من بعض، إلى "الأسرة النواة" أي الأسرة المكونة من أبوين وأطفالهما فقط، وذلك لمواكبة عملية التحضر. وبالتالي بدأت أعداد الأسر الممتدة تنخفض وتتضاءل.

عائلة تركية - مجامع المخاطر
عائلة تركية – shutterstock

فوفقاً لنتائج مسح بنية الأسرة في تركيا عام 1968 بلغت نسبة الأسرة النواة 59.6%، ونسبة الأسرة الموسعة 32.1%. ونسبة الأسرة وحيدة الوالد بلغت 8.3%. أما في 2018 أي بعد 50 عاماً كانت نسبة الأسر الممتدة 15.8% ، ونسبة الأسرة النواة 65.3% ونسبة الأسر المكونة من شخص واحد 16.1%.

وكما هو موضح في الرسم البياني أعلاه، نرى أن نسبة الأسرة النواة كانت نسبتها تزداد حتى تسعينيات القرن العشرين، أما نسبة الأسر المكونة من شخص واحد بدأت تزداد منذ تسعينيات القرن العشرين حتى يومنا هذا. وهذا يوضح لنا أن الأسر المكونة من شخص واحد ازدادت نسبتها بالتزامن مع انتقالنا إلى مجتمع صناعي وانتقال الأسرة النواة إلى مجتمع الخدمات. وتشير التوقعات بنهاية عام 2023، ستبلغ نسبة الأسرة النواة لتصبح 74%، والأسرة الممتدة 6%، أما الأسرة المشتتة 20%.


بدلاً من تقديم حلول: وعي عالمي مشترك

سكان مجتمع المخاطر، الذين باتوا يتمتعون بجميع أنواع الحريات في جو ليبرالي وحر، محاطون في الواقع بالمخاطر من جميع الجهات، وهم عاجزون وغير مجهزين في مواجهة هذه المخاطر. وقد أظهر مثال فيروس كورونا أنه يمكننا التطبيع فقط وليس التعايش في ظل ظروف استثنائية ومعايير غير عادية والتكيف في ظل القرارات الغريبة المتخذة.

لكن أولريش بيك دعا في كتابه "الفردانية: الفردية المؤسسية وعواقبها الاجتماعية والسياسية" (تشارك مع زوجته إليزابيث بيك في تأليف هذا الكتاب) دعا إلى المواجهة بدلاً من التطبيع والتعايش، وأن تحل الفردية القائمة على الناس، أي التضامن، بدلاً من الفردية القائمة على الليبرالية. وكتب أن الانتشار العالمي لهذه المخاطر سيخلق حساً عالمياً سليماً، لأنه سيتطلب من الناس معالجتها بشكل مشترك. 

فهناك شخص بعيد عنك يتعرض لنفس التهديدات التي تتعرض لها، والأمور التي تجعلك مكتئباً تجعله مكتئباً أيضاً. لذلك يجب إدراك ومعرفة أن حبسنا الانفرادي هو في الحقيقة ظاهرة عالمية، والتصرف وفقاً لذلك يبدأ من تحمل المسؤوليات وإظهار التعاون المشترك مع الأشخاص المجاورين لنا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيلين أتيش
باحثة تركية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
تحميل المزيد