ونحن نحتفي بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ما أحوجنا إلى إعادة قراءة سيرته على ضوء واقعنا المعاصر، وخاصةً تلك الجوانب المشرقة من سيرته، بغية الاقتداء واقتفاء الأثر، وبغية التشبع بالقيم الإسلامية النبيلة التي نادى بها صلى الله عليه وسلم، وجسدها أيضاً على أرض الواقع، إذ كان قرآناً يمشي على الأرض، أي كان مجسداً لقيم القرآن، واحد من الأمور التي تخامر ذهني منذ مدة وأنا أقرأ عن أثر العزلة على النفس والروح معاً، هي خلوة النبي صلى الله عليه وسلم بغار حراء، وذلك قبيل نزول الوحي، حيث كما جاء في الحديث أنه كان يخلو إلى غار حراء فيتحنث فيه الليالي، أي يعبد الله فيه، هذه الخلوة لم تكن خاصة به صلى الله عليه وسلم، بل يفعلها جميع العظماء، كما أنها كانت معهودة في الديانات الشرقية، إذ فعلها سيدنا موسى عليه السلام أيضاً، ومن هنا ستصبح الخلوة في الثقافة الإسلامية كأمر ضروري، حيث إن العبد يحتاج من حين إلى آخر إلى أن ينعزل عن الناس، ويختلي بنفسه ويتأمل في ملكوت الله.
أحسن ما قرأت في تعريف الخلوة، هو تعريف ابن عجيبة لها، حيث يرى أنها انفراد القلب عن الناس، وانفراد القلب بالله، فالخلوة في الثقافة الإسلامية يكون لها هدف التقرب إلى الله، وذلك بالتأمل في ملكوته، مما ينصح به في الخلوة، تقليل الطعام، بل وتقليل حتى العبادة كذلك، مثل الصلوات، والاقتصار فقط على المفروضة منها، وبدل ذلك الإكثار من ذكر اسم الله، ولفظ الله هو المطلوب، هذه بعض آدابها، وإلا فهناك أمور أخرى أكثر في ذكرها الصوفية، كما أنهم هم الأكثر ممارسة لها، حيث إن بعضهم لهم موعد محدد في السنة، لا بد يعتزلون فيه الناس، ما لفت انتباهي أيضاً وأود الحديث عنه هنا، هو أثرها النفسي والذهني، وهذا ما جعل كبار الفلاسفة يمارسونها، ويكثرون في مدحها، وذلك لأنها تعين على صفاء الذهن، فتتجلى له أمور لم تكن لتحصل من غير تلك الحال، بلغة الصوفية، وذلك أن الذهن حين يشتغل في انعزال عن الضغوط والانشغالات الدنيوية، لا بد أنه آت بأفكار مبدعة، كما أن الروح ترتاح، وتستكين النفس، بعدما كانت منشغلة بملذات الجسد.
العزلة قد يكون لها بعد سياسي أيضاً، حيث إن المنعزل هو في حرية تامة، حيث إنه يكون محرراً من قيود المجتمع، وكذلك محرر من أعراف الناس وعاداتهم، بل ومحرر من التزاماتهم، كل هذا يساعد الفرد على التخلص من الضغوط، وهذا ما يجعل النفس ترتاح، كما أن الخلوة لا تعني العزلة، فالخلوة في الثقافة الإسلامية تعني الاختلاء عن الناس، لكن الاستئناس بالله، ولهذا يكثر الصوفية من ذكر الله، حيث إنهم يشعرون بمعيته، فهو أنيسهم في خلوتهم، وهذا ما يساعدهم على تحقيق الطمأنينة النفسية لهم، فالخلوة هي بمثابة تزود روحي يعين الفرد على الاستمرار في الحياة، هي بمثابة محطة وقود، يتوقف عندها المؤمن ليتزود بالطاقة الإيمانية، ليضمن وصوله سالماً، ربما هذا ما يفسر السكينة والهدوء التي تغشى هؤلاء الناس، وكذلك يفسر اللطف والليونة التي نجدها في معاملاتهم، وذلك بدل العجرفة والنرفزة التي تسكن آخرين.
هناك الكثير من الأفلام صورت اليوم، تتحدث عن أشخاص اختاروا العزلة الإرادية عن الناس، اختاروا طوعاً مغادرة ضجيج الحياة، ليسكنوا إلى أنفسهم في عوالم البرية، من ذلك الفيلم الشهير الذي أصبح يقتدي به كل من أراد الخلاء في البرية، أقصد فيلم إلى البرية، غير أن هؤلاء غالباً ما لا ينعمون بما يأملون، حيث إن هذه العزلة تكون جسدية فقط، فهم يحاولون مساعدة الجسد على التخلص من كل الذكريات الأليمة التي عاشوها، غير أن القليلين منهم، في مقابل ذلك من تكون لهم إرادة الاتصال الروحي والتزود الإيماني، لهذا حتى حينما يعودون إلى طبيعتهم للحياة اليومية، ما يلبثون أن يعود الأمر إلى حاله، وذلك لأن الاختلاء الجسدي لا يضمن لهم ضرورة وجود معنى للحياة، التأمل في الطبيعة بغير هدف لن يحقق لك أي شيء، فهي مجرد رسوم صماء، إذ لم تجعل منها دليلاً يقودك إلى العالم الآخر، تجعل منها آيات على وجود عالم الملكوت.
قالت لي يوماً أستاذة خبرت الحياة من جميع جوانبها، أتعرف لم الناس يحبون الله، لم يريدون أن يتعلقوا به وحده دون سواه، لأنه هو الوحيد الذي يضمنون أنه لن يتخلى عنهم، إنه الوحيد الذي يضمنون أنه لن يصيبهم بخيبة أمل، إذ فيه تتجلى جميع قيم الخير المطلقة، الحب، الوفاء، الرحمة، وذلك بعدما ييأس الناس من الناس، من نفاقهم، من كذبهم، من شرهم وشرههم، لم يجدوا ملاذاً آمناً لهم، سوى الله سبحانه وتعالى، وحينما يشعر الناس بأن الفتور بدأ يدب إلى علاقتهم بالله الذي يزودهم بالطاقة الروحانية التي تساعدهم على الاستمرار في الحياة، يلجؤون إلى الابتعاد عن الناس، والقرب منه، حتى يشعروا بدفء الإيمان من جديد، كم مرة سمعنا من ضاقت بهم الدنيا، وخذلهم الناس وتخلى عنهم الجميع وهم يستنجدون بالله قائلين: ليس لنا أحد إلاك سبحانك سبحانك، وخاصة بعدما تحل كارثة بجمع معين، أو شخص، الله هو الملاذ الآمن، وهو الذي يضمن الإنسان وجوده، وقربه، ومعونته، متى أراده إذ هو أقرب إليه من حبل الوريد.
الفرق بين الخلوة التي كانت في الثقافة الإسلامية، والعزلة التي تتحدث عنها الأفلام اليوم، وهي تحكي قصص أشخاص حقيقية بالمناسبة، هو أن الخلوة في الثقافة الإسلامية كانت بمثابة علاج نفسي روحي، حيث إن الإنسان كان يبغي أن يذوق حلاوة الإيمان، بينما العزلة اليوم صحيح أنها تحقق شرط الابتعاد الجسدي عن الناس، غير أنها لا تضمن تحقيق ذلك الاتصال الروحي، الإنسان الذي يتوه في البرية يشعر بالخوف والضجر، وليس مثل ذلك الذي يقوم بالخلوة فإنه يشعر بالسكينة والألفة، الأول يشعر بالوحشة؛ لأنه يعتبر أنه في صراع مع الطبيعة، بينما الأول يشعر بالسكينة؛ لأنه يشعر أنه بانسجام معها، وإن كانت حتى العزلة لها بعض الفوائد أيضاً، حيث إن أصحابها على الأقل يتخلصون من بعض الآلام النفسية ولو مؤقتاً، كما أن ذلك يضمن لهم ترتيب أفكارهم، وترتيب أولوياتهم أيضاً.
لا يخلو مسجد قديم إلا وبه مكان للخلوة، بل هناك بعض المنازل القديمة، كانت بها أيضاً، هذا الأمر يجعلني أفكر كيف أن الحضارة الإسلامية كانت متكاملة، بل كانت منسجمة ومتناسقة بين عناصرها الفكرية والمادية، منذ مدة وأنا أمني النفس بالكتابة عن العلاج النفسي والروحي في الثقافة الإسلامية، كيف أنها كانت تحصن الإنسان من الوقوع في بعض الاضطرابات النفسية، أو تساعده على تجاوزها، أحد تلك الجوانب هو هذا، الخلوة، ولهذا نجد أن جميع المساجد والزوايا كانت بها أماكن مخصصة لهذا الأمر، حيث تكون عبارة عن مكان مظلم، وبعيد شيئاً ما عن الناس، وكأنها عبارة عن جعل الشخص يتخلص من جميع الحواس، ويركز على الذهن فقط، كما أن التقليل من الإجهاد البدني، وتقليل الطعام يساعدان على ذلك الأمر، ما أحوجنا اليوم إلى تطبيق ذلك الأمر، بعدما أصبح من شبه المستحيل تطبيقه اليوم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.