التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ بالرئيس السوري بشار الأسد في مدينة هانغتشو على هامش دورة الألعاب الآسيوية، التي تستضيفها الصين للمرة الثالثة. اتخذ الرئيسان قرارات مهمة بالنسبة لهما وللمنطقة ككل بعد مرور 20 عاماً على آخر زيارة قام بها الرئيس الأسد إلى الصين في عام 2004. تعد هذه المحاولة الأكثر جدية من زعيم النظام السوري حتى الآن من أجل تحقيق الاستقرار أولاً ثم إعادة بناء بلده المدمر.
في بيئة دولية تدور فيها، من ناحية، مناقشات حول ما إذا كنا نتجه نحو نظام عالمي ثنائي القطب، ومن ناحية أخرى، ثمة انتقادات لنقاط الضعف والتآكل في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، تواصل الصين تعزيز قوتها العالمية يوماً بعد يوم باعتبارها جهة تنسيق محورية في كل هذه المناقشات. بالإضافة إلى التعاون الاستراتيجي والعسكري، تعمل الصين أيضاً على إنشاء مجال نفوذ خاص بها في آسيا وأفريقيا من خلال التعاون الاقتصادي والقوة العسكرية والقوة الناعمة المتمثلة في معاهد كونفوشيوس وبرامج التعليم الدولية التابعة لها. يتضح جلياً أنَّ نسبة كبيرة من المقالات المنشورة حالياً في مجلات أمريكية -يمكن اعتبارها تمثل بالفعل الأيديولوجية الأمريكية مثل "Foreign Affairs" أو"Foreign Policy"- تدور حول الصين، وهو ما يكشف حقيقة أنَّ تحركات بكين هي أكبر قضية يناقشها الغرب حالياً.
من ناحية أخرى، يتمثّل أشد انتقاد للمفهوم الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي لعام 2022 في عدم فعل الكثير تجاه الصين في مقابل التركيز على روسيا. لكن هذا أمر مفهوم تماماً. حلف شمال الأطلسي، كما يشير اسمه، هو تحالف عسكري للدفاع عن منطقة شمال الأطلسي. لذا، من المفهوم أنَّ حلف الناتو -بما يتماشى مع هدف تأسيسه- ركَّز مفهومه الاستراتيجي على روسيا، التي اعتبرها تهديداً جراء حرب أوكرانيا وتهديد أمن بولندا والدول الاسكندنافية. ومع ذلك، يدرك الغرب، جنباً إلى جنب مع بقية العالم، أنَّ الصين هي أكبر "مُغيّر لقواعد اللعبة" في النظام العالمي الحالي.
تضمن اجتماع شي جين بينغ مع بشار الأسد بنوداً مهمة مدرجة على جدول الأعمال. أعلنت الدولتان رفع مستوى علاقاتهما إلى "الشراكة الاستراتيجية" وتعهّدا بمزيد من توثيق العلاقات خلال الفترة المقبلة. أعلن الرئيس الصيني عقب اللقاء عن التعاون في مجال استيراد المنتجات الزراعية من سوريا ومن أجل تحقيق المصالح المشتركة لكلا البلدين. بالإضافة إلى ذلك، أكد شي جين بينغ على بعض النقاط التفصيلية، من بينها أنَّ الصين ستزيد تعاونها مع النظام السوري فيما يخص مبادرة الحزام والطريق وأنَّ الصين ستدعم سوريا في إعادة بناء البلاد التي مزقتها الحرب. دعونا الآن نتناول بمزيد من التفصيل المصالح المشتركة بين الصين والنظام السوري من خلال تقسيمها إلى 3 نقاط محورية: استراتيجية واقتصادية وأمنية.
التركيز الاستراتيجي: مبادرة الحزام والطريق الصينية، أهم أولويات الصين
تتصدر مبادرة الحزام والطريق الصينية، المعروفة أيضاً باسم "طريق الحرير الجديد" وأُطلقت في عام 2013، قائمة الأولويات السياسية للصين حالياً فيما يخص مصالحها العالمية ومجال نفوذها. نفّذت الصين بالفعل 266 مشروعاً من مشروعات مبادرة الحزام والطريق مع حلول عام 2022. بالنسبة للصين، تحمل مبادرة الحزام والطريق مغزى يتجاوز أهميتها الاقتصادية. بالإضافة إلى إنشاء سلسلة توريد وتمكين الشركات الصينية من الاستثمار في الخارج، توفر أيضاً المبادرة للصين إمكانية الوصول إلى الموارد الطبيعية والمواد الخام.
من هذا المنطلق، ليس من قبيل الصدفة أن تكون أفريقيا هي أكثر منطقة تركز فيها الصين استثماراتها حالياً، تليها منطقة الشرق الأوسط. يمكننا القول -إلى حد ما- إنَّ الشرق الأوسط حالياً مهم بالنسبة للصين بنفس قدر أهمية منطقة البحر المتوسط بالنسبة لبريطانيا في القرن الـ19. لهذا السبب تريد الصين إحلال السلام والاستقرار في المنطقة وتقود مبادرات وتضطلع بدور الوساطة لإنهاء الصراعات بين دول المنطقة.
أوضحت تحركات الصين خلال الأشهر الأخيرة لحل النزاع بين المملكة العربية السعودية وإيران عزمها على تحقيق الاستقرار في المنطقة. شهدت العلاقات بين الدولتين انفراجة نسبية بالتوصل إلى اتفاق يتضمن إعادة فتح السفارات واستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما بموجب وساطة صينية. تتواصل الآن المبادرات الإقليمية للصين مع سوريا.
تريد الصين تحرير سوريا من عزلتها وتحقيق الاستقرار فيها. تبدو هذه المبادرات منطقية بالنظر إلى انضمام سوريا إلى مبادرة الحزام والطريق في العام الماضي. يُمثّل مشروع مبادرة الحزام والطريق، وهو خط سكة حديد يمتد من إيران إلى اللاذقية في سوريا -أي إلى البحر المتوسط- أهمية كبيرة بالنسبة للصين. لذا، تتمثل أولى خطوات نهج الصين في حل خلافات إيران مع دول المنطقة، ثم إعادة بناء سوريا. في هذا الصدد، أتوقع أيضاً تحركاً صينياً من أجل تحقيق الاستقرار في العراق (على الأقل شمال العراق) في السنوات المقبلة على الرغم من أنَّ بعض الخبراء يرون لبنان باعتبارها محور التركيز التالي للصين بعد سوريا.
التركيز الاقتصادي: الوصول إلى المواد الخام والاستثمارات ورفع العقوبات
ينطوي اهتمام الصين بالمنطقة على أهمية اقتصادية كبيرة. كما ذكرت أعلاه، تعد دول أفريقيا والشرق الأوسط، الغنية بالمعادن ومنتجات النفط والغاز، محور التركيز الرئيسي للصين حالياً. بسبب هذه الموارد الطبيعية والمواد الخام، تريد الصين تعظيم مكاسبها الاقتصادية من خلال ضمان استمرارية سلسلة الإمداد -أي الإنتاج. بخصوص هذا الشأن، تهدف الصين إلى إنهاء حالة عدم الاستقرار في سوريا في أسرع وقت ممكن وإعادة دمجها في النظام العالمي.
ثمة تركيز اقتصادي آخر ينصب على تدفق استثمارات الشركات الصينية الموجودة في الخارج. إذا نتذكر، سعت الصين في السنوات الماضية إلى إنهاء اعتمادها على الدولار الأمريكي في التجارة الدولية والاستيراد والتصدير بعملتها الوطنية "اليوان" وتعميم ذلك على الدول المتعاملة معها تجارياً. في سبيل تحقيق هذا الهدف، أعلنت الصين أنَّها ستدعم اليوان بالذهب من خلال بنكها المركزي لزيادة مصداقيتها.
عندما ننظر إلى كل هذه التحركات معاً، يتضح أنَّ الصين تهدف إلى ضمان تدفق الموارد إلى بكين وزيادة مجال نفوذها باستخدام اليوان من خلال تعهيد استثماراتها المحلية. ومع ذلك، تستخدم الصين بالتأكيد العمالة الصينية في استثماراتها بالخارج. بهذه الطريقة، لا تُولد الصين إيرادات ضريبية من خلال إرسال المواطنين إلى الخارج مع استثماراتها فحسب، بل تخلق أيضاً قوة ناعمة في المناطق التي يذهب إليها العمال الصينيون. تصبح اللغة الصينية لغة مُتحدثاً بها في المناطق التي يذهب إليها هؤلاء الصينيون الذين ينقلون ملامح أخرى من الحياة الصينية، مثل الطعام الصيني وثقافة الترفيه الصينية، إلى تلك المنطقة العاملين فيها. هكذا تحقق الصين مكاسب على كلا الجانبين.
يعد شي جين بينغ، الذي قال بعد لقائه بالرئيس السوري إنَّه سيدعم سوريا في مواجهة عزلتها بسبب العقوبات الأمريكية ودعا إلى رفع هذه العقوبات، أكبر المرشحين للاستثمار في إعادة إعمار سوريا. إذا حدث ذلك، ستكون الصين قادرة على إنشاء مجال نفوذ قوي في سوريا. تبدو الصين قد انتهكت العقوبات الأمريكية التي تستهدف تجميد أصول أي شخص يتعامل تجارياً مع سوريا بموجب "قانون قيصر" لعام 2020. بالنسبة لسوريا، هناك خيار استبعادها من جانب الولايات المتحدة من ناحية وإدراجها في نظام عالمي من جانب الصين من ناحية أخرى. لذا، يبدو اهتمام سوريا بتعزيز علاقاتها مع الصين أمراً منطقياً جداً ومناسباً من وجهة نظرها الخاصة.
التركيز الأمني: الجماعات الإرهابية المتطرفة وقضية تركستان الشرقية
يتعيّن على الصين أولاً اتخاذ خطوات لضمان الأمن في سوريا، التي تخطط للاستثمار فيها وإدراجها في مبادرة الحزام والطريق. لكنها في الواقع تواجه مشكلة مشتركة مع سوريا في هذا الشأن. تعاني الصين من مشكلة ممارسات إرهابية تنبع من تركستان الشرقية، حيث مارست الصين القمع المنهجي ضد جزء من شعبها ـ وعمليات إبادة جماعية في رأيي- لسنوات عديدة ودفعتهم إلى التطرف. ثمة مزاعم أنَّ بعض متطرفي تلك المنطقة استقروا في سوريا وينفذون أنشطة إرهابية. لذا، تواجه الصين مستوى مختلفاً من القلق بشأن الأنشطة الإرهابية في سوريا. لهذا السبب، تجمع الصين بين حرب سوريا ضد الإرهاب وجهودها الخاصة لمكافحة الإرهاب، وهذا أمر منطقي يتماشى مع أهدافها الأمنية جنباً إلى جنب مع أهدافها الاقتصادية. من المتوقع أن تدعم الصين النظام السوري من أجل حماية استثماراتها في سوريا.
ما الذي ستجلبه الشراكة الاستراتيجية بين الصين وسوريا إلى المنطقة؟
بعد تراجع نفوذ روسيا في سوريا إلى حدٍ كبير بسبب حربها مع أوكرانيا، يتمثَّل الخيار الأكثر ترجيحاً بالنسبة لسوريا في التقرّب من الصين. قد تضطر تركيا وإيران وروسيا، اللاعبين المتبقين بعد الانسحاب الأمريكي، إلى إضافة الصين إلى مبادراتهم الحالية المتعلقة بسوريا في الأيام المقبلة. على الرغم من أنَّ إدخال جهة فاعلة جديدة إلى المعادلة سيزيد من صعوبة التوصل إلى توافق، لكنه سيمهد الطريق أمام حل المشكلة السورية بطريقة أو بأخرى بمشاركة قوة عالمية كبرى مثل الصين؛ لأنَّ النفوذ الصيني سيعزز نظام الأسد بصورة كبيرة من خلال إضافة قوة دبلوماسية واقتصادية إلى المعادلة، بعيداً عن "القوة العسكرية" لإيران وروسيا في سوريا. في هذه الحالة، سيكون دخول تركيا في عملية توافق مع نظام الأسد خلال الفترة المقبلة مسألة محل نقاش؛ لأنَّ التقارب الصيني-السوري والشراكة الاستراتيجية بين البلدين سيقلب الموازين إلى حدٍ كبير ويدفع تركيا إلى إعادة تقييم سياساتها الحالية تجاه سوريا. أخيراً، ستؤثر مبادرات الصين أيضاً تأثيراً كبيراً في الانتخابات الأمريكية عام 2024.
يُنظر إلى فشل سياسات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في منطقة الشرق الأوسط على أنَّها ساهمت في صعود قوة الصين. أتوقع فوز مرشح جمهوري (ترامب، إذا كان يستطيع الترشح) في الانتخابات الأمريكية المقبلة. إذا حدث ذلك، قد لا تسير الأمور بسهولة بالنسبة لنظام الأسد في سوريا كما هو متصور حالياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.