"آه إسطنبول، منذ تأسست إسطنبول، لم أرَ هكذا هموماً، أموتُ من حُبك. لم يبقَ فيَّ أثرٌ من عزتي وكبريائي".
من أغنية "آه إسطنبول" لسيزان أكسو
في بداية أيام الخريف بإسطنبول، وقبل الغروب بساعة، كنت أقف مع ياسين صديقي في الجزء الآسيوي من المدينة. جلسنا نشرب القهوة في الطابق العلوي للمقهى المطلّ على الخليج، نشاهد إسطنبول، متنفسين هواءها الرطب البارد، تلك المدينة اللاهية التي تسحر من يراها في هذه الساعات، كمرض يصيب الخيال.
كان يطلّ أمامنا الميناء وآيا صوفيا والسلطان أحمد، بينما تذهب العبّارات وتعود في الخليج محملة بالعائدين من العمل والذاهبين للسهر. كانت رؤية إسطنبول من هذا المقهى جميلة، ولكن لمن يعرف المدينة مثلنا يدرك أن جمالها خادع.
فأحياناً نرى إسطنبول مغرورة، وغير مكترثة بأحد، كامرأة فائقة الأنوثة والجمال، وأحياناً كامرأة لا يغادرها القلق والخوف. مدينة بشوارع، ومواصلات عامة تغمرها، كصخب هستيري، يسكنها ملايين السكان في نظام اجتماعي قاسٍ.
ذكر لي صديقي سيرجيو في مرة قبل أن يغادر إسطنبول بلا عودة، كيف كان يتكلم متلعثماً بتركيَّته الركيكة مع المدينة ليلاً، يتوسلها بأن تكون لطيفة معه، وتعطيه كل شيء كان يتمناه من بلده. كان يتمنى أن تعطيه الراحة والفرصة ليستمتع بصيفها وأكلها وموسيقاها ومسارحها والتسكع في شوارعها رفقة الأصدقاء بحرية.. لم يكن يريد أكثر من أن تعطيه المدينة فرصة للتعرف عليها وعلى نفسه دون أن تقلق منه.
لم يمكث سيرجيو كثيراً، وغادر كارهاً المدينة بأكملها. ربما كان عليه ألا يأخذ إسطنبول على محمل الجد؛ إذ يصعب أحياناً تفسيرها، وأسباب غضبها، وتجاهلها، وغياب المعنى أحياناً عند بعض ساكنيها.
يخيم على إسطنبول هذه الأيام حالة من الريبة والقلق، لا شيء مؤكداً، فبينما الجميع ينتظر الزلزال، ينتظر بعض الأجانب وخصوصاً العرب قرار ترحيلهم في أي وقت، في ظل رائحة العنصرية التي تتحسس المدينة، شعور شديد الرمادية يطبق على الجميع في إسطنبول يشبه فصل الخريف، لا يعلم أحد الشتاء الذي سيقبل بعده.
منذ قيام الربيع العربي لم تتأخر إسطنبول في دعم الشعوب العربية ومطالبها بالحرية، فأصبحت إسطنبول وكل مدن تركيا طرفاً رئيسياً في مجمل أحداث هذا الربيع، من خلال تقديم كلّ أنواع الدعم للشعب العربي المكروب منذ عقود، ورغم الانتكاسة التي حدثت لربيعنا، أبت إسطنبول أن تخذلنا، واستقبلت الكثير من العرب الذين وضعوا أوجاعهم في حقائبهم ورسوا على شواطئها.
لكن اليوم ولأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية معقدة لم تعد إسطنبول كالسابق تلك المدينة الدافئة للجميع، فهي حتى ليست حانية على أهلها، فلا أعرف أحداً من أصدقائي الأتراك لم يحذرني من إسطنبول وتقلب مزاجها!
وهو ما يدفعني دائماً للحيرة، أوليست هذه إسطنبول المدينة التي لطالما تغنى بها الروائي أورهان باموق، متخذها كمسرحه الدائم الذي يقيم عليه كل حكاياته، فلطالما تحدث عن إسطنبول المدينة المثقلة بماضيها المهيب الذي تشهد عليه جميع أعراق البشر والعمارة والشوارع والبوسفور.
لقد كان قدر هذه المدينة أن تظل بين الشرق والغرب، فظل طابعها الدائم هو الحزن، إذ يقول باموق عنها: "كانت سوداوية هذه الحضارة المحتضرة تحاصرنا، وكلما عظمت الرغبة في التغريب والتحديث، عظمت الأمنية اليائسة في التخلص من كل الذكريات المريرة عن الإمبراطورية المنهارة، مثلما يلقي عاشق مهموم ملابس حبيبته الضائعة وأشياءها وصورها". لكن اليوم لا تشبه إسطنبول باموق نفسها، فهي ليست حزينة ذلك الحزن الصوفي الذي تتشح به، إن إسطنبول قلقة، مضطربة، ككل شيء يحيطنا.. رويداً رويداً تفقد رائحتها، تصبح ككل شيء حديث جديد مائع بلا طعم، سريع غير أصيل، حتى الصراع فيها بين الغرب والشرق تغير، فالمال من يحكم هنا.
واليوم أقف أمام النافذة أتأمل المدينة من علٍ بصمت، كم أصبحت تشبه المدن الزجاجية الجديدة! فلم يعد عمرانها يهتم بالأصالة أو الروح، يهتم بالكم لا بالكيف. تنخر الرأسمالية الحياة والمدن، حتى إسطنبول بأسوارها الشاهدة على الموت والحياة لتاريخ الإمبراطوريات، لم تهرب من ذلك الوباء، الذي يرى في المدينة كسلعة تجذب الجميع، حيث السياحة، والاستثمار، والعمال المهاجرون، فلمَ لا تجني لنا الأموال؟ تحولت المدينة من مسرح للأحداث لمصنع للفرص، فانظر إلى ساكنيها يحفظون مواعيد الباصات والقطارات أكثر من أسامي أصدقائهم، فبنظرة واحدة على "المتروبوص" (حافلة سريعة تصل شقي المدينة الأوروبي والآسيوي ببعضمها)، ستدرك أنك في مصنع كبير، انظر لوجوه الناس في الصباح داخل المواصلات، كأنهم ذاهبون لحتفهم.
أي واحد منا سيكون أغنى رجل في المقبرة؟
بينما أقف أحياناً في المتروبوص لا أملك حتى حرية أن أتطلع في هاتفي نظراً لتدكس الركاب فوق بعضهم، ألعن الصباح وأتساءل: كيف أصبحت إسطنبول ونحن هكذا: ضحايا شرور نظام حياتنا؟
في كتابه "شرق أوسط عادي.. بين الاستهلاك والتنقل" يشير كل من تييري بواسير ويوان مورفان، كيف تأثرت منطقة الشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين، بالسياسات الاقتصادية ذات التوجه النيوليبرالي، التي من المفترض أن تسمح بظهور سوق إقليمي متكامل، إلا أنها ساهمت في تعزيز التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، وخلق إحباطات جديدة.
ويشرح كيف يتدخل العالم في الحياة المحلية وتمثيلات الأفراد والجماعات؟ ويحلل ما هي الروابط بين الاجتماع والاقتصاد التي يمكن ملاحظتها، ما وراء التوترات وتحتها، الانقسامات الداخلية والحدود الجغرافية والثقافية والاجتماعية، بين مختلف المساحات والسكان، وكذلك بين مختلف الطبقات الاجتماعية وطبقات الأجيال؟
إذ يرى أن التحولات الرأسمالية، منذ الثمانينيات وانتشار السياسات النيوليبرالية، شكلت أسس التغيرات الدينية والحضرية والاقتصادية والتجارية في مدينة إسطنبول.
تشوه الرأسمالية كل أركان الحياة للبشر، بعد ذلك تحاول لملمتها قليلاً لكي تحافظ على استمراريتها، فتخدعنا بوهم تطوير الذات والاستثمار أكثر في أنفسنا، لعل أحداً منا يكون أغنى رجل في المقبرة يوماً ما!
الرأسمالية الانتقامية
نظراً للنهضة الاقتصادية التي شهدتها تركيا مطلع القرن الحالي، تحولت إسطنبول لمدينة استثمارية، ومدينة رأسمالية بامتياز. ولا يمكن إنكار ما تأتي به الرأسمالية أحياناً على المدى البعيد، وما تحدثه من تحسن عام في المستوى المادي والحضاري للبشر في العالم كله وليس تركيا فحسب، حيث تقلل من نسب الفقر المدقع، وتتيح العديد من فرص العمل التي تساعد في خلق وتوسيع الطبقة المتوسطة، لكن في حركة ارتدادية، يسميها العالم الأكاديمي الكندي ماكس هايفين "الرأسمالية الانتقامية"، بمعنى أن ما تقدمه الرأسمالية من ميزات للطبقة المتوسطة والرفاهية، تسحبه منها في أقرب أزمة اقتصادية، فيصبح من له عمل عاطلاً، ومن كان يقود سيارة يتركها ويعود للمواصلات، فتصبح الطبقة المتوسطة بأكملها عرضة للافتقار، وتصبح وجهاً لوجه أمام التضخم وارتفاع الأسعار، وهو ما قد يؤدي إلى ما يسمى "نزع التحضر".
هنا يجد الفرد نفسه بعد أن وصل لمرحلة حياتية وثقافية جيدة، في لحظة أزمة اقتصادية يخسر كل امتيازاته ورفاهيته، ما يجعل الفرد يرجع لأساليب حياته القديمة وأحياناً لأفكاره القديمة التي اعتقد أنه تجاوزها، فيصبح أكثر قابلية لأن يصدر الإنسان ردود فعل غير متحضرة مثل العنف وتصديق الخطابات الشعبوية ونظريات المؤامرة لبعض السياسيين المستغلين.
ومع تراجع دور العائلة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، يجد الفرد نفسه وحيداً في فقاعة، وحيداً دون خلفية مجتمعية أو ثقافية قوية داعمة له، فيصبح وحيداً أمام تعقيد الحياة الحديثة وما تجلبه من إشكاليات، ما قد يدفعه لتوجيه غضبه ضد فئات أضعف ليس لها علاقة، وربما ذلك ما يفسر موجات العنف والعنصرية ضد السيدات واللاجئين والمهاجرين في بعض الدول.
ربما يشرح ذلك مزاجية وسيكولوجية سكان المدن الكبرى، إذ يرى الأكاديمي الكندي ماكس هايفين أن النظام العالمي اليوم يبدو مصمماً على الانتقام الاقتصادي المتهور؛ ويدلل على ذلك بالعقوبات الاقتصادية والفوضى المناخية والديون غير القابلة للدفع والعنف الممنهج والتدهور المستمر لقدرة البشر على العيش في حياة مشتركة باختلافاتهم.
تناول هايفين كتابه الصادر مؤخراً "الرأسمالية الانتقامية أشباح الإمبراطورية: شياطين رأس المال وتسوية الديون غير المسددة"، متطرّقاً إلى ثيمات العنف العرقي والبنيوي، ومفاهيم الانتقام التي تؤطر وتحدد الكثير من أزمات الرأسمالية في عصرنا.
يرسم الرأسمالية الانتقامية كنظام في التطرف الذي يبدو مثل الملك المجنون وكأنه ينتقم، دون داعٍ وبلا مبرر، من رعاياه. في عمق هذه الأنظمة ثمة تناقضات هيكلية تولد أشكالاً مرضية ومناخاً رجعياً خطيراً.
ربما اليوم أفهم وأستطيع أن أدرك حقيقة مشاعري تجاه إسطنبول، لست أكرهها، بل أشعر بالشفقة لما آلت إليه، ربما أتصالح يوماً مع إسطنبول، لكن لن أتصالح مع العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.