كأن ستارة مسرح قد أُغلقت على مشهد كنت فيه عام 2020 ثم فُتِحت لأجد نفسي في مشهد آخر، أؤدي شخصية مختلفة. المرآة التي أحلق ذقني أمامها كل صباح تؤكد لي أني أحمل ملامح الرجل الذي كنته في 2019 لكن التقاطيع المألوفة تبدو كما لو أنها كل ما تربطني به الآن.
أدرك أننا مررنا بالكثير من الصعاب خلال محنة الوباء. الصدمة، والرعب الذي اجتاحنا بعدها، الهلع واضطراب مشاعرنا خلال فترات الإغلاق، إلخ.. هل ما أمرُّ به في منتصف 2023 هو نتيجة استهلاك مفرط لمشاعري خلال شهور/ سنوات الجائحة؟ هل أعاني من الاحتراق، أو ما يُسمى الـ burnout؟ أم هي آلية دفاعية اتخذها دماغي، وربما جسمي أيضاً، لحمايتي من ضرر فادح كنت سألحقه بنفسي، كما تفعل الأجهزة الإلكترونية عندما يوشك شحن بطارياتها على النفاد، فتلجأ إلى تقليل الطاقة المستعملة للحصول على زمن تشغيل أطول؟
لماذا أشعر بأني ما زلت عالقاً في تلك السنة اللعينة؟ أليس من المنطق أن أبدأ في التعافي والعودة إلى حالتي الأولى مع انتهاء العزل وظهور علاجات أثبتت جدواها في الحد من خطر كوفيد وتقليل أعداد الوفيات الناتجة عنه؟
لا شك بأننا نواجه كمّاً من التحديات الجسيمة التي تهدد وجودنا، مثل التحول المُناخي الذي نلمس آثاره في شتى أنحاء العالم، كذلك الحرب في أوكرانيا والتلويح المستمر باستخدام الأسلحة النووية، أيضاً خشية العلماء من توابع استخدام الذكاء الاصطناعي وقدرته على إلحاق الأذى بالجنس البشري، وربما التسبب بفنائه.. نعم، لدينا ما يكفي ويزيد من أسباب الشعور بالخوف، لكن متى كانت الحياة نزهة آمنة لرجل مثلي، ومتى بدا المستقبل أمامي جليّاً ومشرقاً؟
كنت طفلاً عندما اندلعت أولى الحروب في العراق، تبعتها حرب أخرى وأخرى، ثم فوضى ونزاع طائفي. درست العمارة وتخرّجت في الجامعة وسط هدير صافرات الإنذار ودويّ القصف. كنت في منتصف الثلاثينيات عندما حزمتُ حقائبي وغادرت بغداد لاستحالة استمرار عيشي وعائلتي فيها. رحلة الهجرة وتأسيس حياة جديدة في نيوزيلندا كانت تجربة مزلزلة، استعنت على مشقتها بالتأليف والنشر. ظننت بأني سأموت قبل إنجاز النصوص التي ضج بها رأسي، لكن ما حدث في 2020 كان كالمطر الذي انهمر فجأة ليطفئ جذوة شغفي ويتركني مع تساؤلات لا تنتهي عن جدوى كل شيء، بما في ذلك الكتابة. لِم تكبّد العناء؟
حاولت إقناع نفسي بأن الأمر لا يعدو كونه مصادفة. لو لم تتسبّب الجائحة في ظهور الأعراض المُحيّرة، كان حدثاً جللاً آخر سيفرزها، كوقوع كارثة طبيعية أو شيء من ذلك القبيل، ولم أكن بصدد الكتابة عن الموضوع لولا زيارة قمت بها مؤخراً لمتجر الكتب القريب من سكني في أوكلاند.
حديث هامس بين بائعين شابّين تسلّل إليّ خلال تصفّحي الضجر للإصدارات الحديثة، تشاركا فيه حيرتهما وعجزهما عن تفسير التغيرات التي طرأت على شخصيتيهما خلال السنوات الثلاث الأخيرة. الفتاة التي بدت في نهايات العشرينيات من عمرها ظنت أن الأمر عابر في البداية، وأنها لن تلبث أن تعود إلى سابق عهدها، لكن الأعراض استمرت، بل تفاقمت لتشمل صعوبة التواصل مع الآخرين، شخصياً و/أو افتراضياً. ردودها على الإيميلات والرسائل النصية تقلّصت هي الأخرى ولم تعد تتجاوز سطوراً معدودة، وأحياناً كلمة أو اثنتين.
الفتى الذي بدا في مثل عمر زميلته ذكر أنه صار يفضّل الاختلاء بنفسه ولم يعد يخرج مع أصدقائه الذين كان يستمتع برفقتهم قبل 2020، أسوأ من ذلك أنه أهمل الفتاة التي كان مرتبطاً بها، ما أدى إلى فشل علاقتهما وانفصالهما. أوشكت على القول إني أفهم شكواهما جيداً، لكنني تراجعت، أو ربما تقاعست، ثم تركت المتجر صامتاً.
لا أستطيع القول إني شعرت بالارتياح لسماع بوح البائعين الشابين، لكنه جعلني أدرك أن تجاربي وتراكم الاضطراب العاطفي الذي عشته على مدار سنوات عمري ليس السبب الوحيد في معاناتي الحالية، فالفتى والفتاة النيوزيلنديان لم يعرفا الحروب في حياتهما، ولم يختبرا ألم فقدان الأحبة نتيجة العنف والإرهاب، ولم يجبرهما أحد على ترك بيتيهما والفرار من وطنهما، ومع ذلك وبالرغم من الفروقات الكثيرة بيننا، نحن نقف معاً في هذه المحنة. لكن ما هي هذه "المحنة" بالضبط، وما سببها، كم من الوقت ستستغرق؟ هل سأعود إلى ما كنت عليه قبل اندلاع الوباء، هل سأتمكن من استرجاع جذوتي التي انطفأت؟
في مقالته لموقع Psychology Today، يذكر المؤلف والمعالج النفسي الاستشاري الأمريكي مايك فيرانو أن "كوفيد وما نتج عنه من فترات عزل وشعور بالوحدة والريبة قد أحدث صدمة طالت أعداداً لا تحصى من الضحايا الذين ما زالوا يعانون من اضطرابات الصحة العقلية".. هل يعني ذلك أن ما أمرّ به أنا والبائعان الشابان في متجر الكتب هو اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)؟
من المعروف أن غياب الدافع والانسحاب الاجتماعي وعدم القدرة على الشعور بالمتعة أعراض شائعة للاكتئاب. اختبرت ذلك في فترات سابقة مظلمة، ركنت خلالها إلى الانعزال في غرفتي، لكن ما يحدث لي الآن لا يشبه أياً من تلك الأوقات.
حرصت لسنوات طويلة على اجتناب الأدوية المضادة للاكتئاب لما عُرف عنها من أعراض جانبية كالفتور والتبلّد العاطفي. أردت الحفاظ على قدرتي على الكتابة والإنتاج بأي ثمن، لكن ها أنا هنا، أصارع للعثور على شغفي المعتاد الذي ضاع مني خلال الجائحة.. ترى، هل ما أصابنا هو اكتئاب من نوع جديد، أو لو شئنا استعارة مفردات كوفيد، هل هذا هو المتحوّر الجديد للاكتئاب؟ لا توجد إجابات محددة، لكن من الواضح أن أموراً كثيراً ستتكشّف في المستقبل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.