"أنقذونا، إننا نموت في صمت"، عنوان مكتوب بالمانشيت العريض، مرفق بصورة امرأة منكوبة تفتح فاهها مدهوشة من وقع الزلزال، هكذا اختارت جريدة "libération" الفرنسية تقديم يوميتها غداة الزلزال الذي ضرب المغرب.
عناوين من بين أخرى كتبت بالمانشيتات العريضة وسيطرت على المشهد الإعلامي الفرنسي منذ حلول الفاجعة. فما إن تحركت الأرض ببلاد المغرب، حتى سخّر الإعلام الفرنسي جرائده وبرامجه الحوارية ليس لتغطية الفاجعة، بل لطرح سؤال جوهري، ألا وهو "لماذا رفض المغرب مساعدتنا؟".
لا مهنية واضحة لصحافة بلد الأنوار!
لم يستطع النظام الفرنسي ليومنا هذا تقبل فكرة سيادة المغرب، وأن المملكة المغربية تتمتع بكل حقها في تسيير البلد حسب ما تراه صائبا؛ إذ إن سؤال كيف يمكن لبلد أفريقي أن يتعامل بكفاءة مع الأزمة بدون الاعتماد الكامل على فرنسا؟، هو سؤال لم يجد له الإعلام الفرنسي إجابة مقنعة حتى الآن.
انكب الإعلام الفرنسي بعد زلزال الحوز، دون أي مهنية، محاولاً من خلال مقالاته وبرامجه التلفزيونية تجسيد السلطات المغربية بصورة توحي باللامبالاة تجاه معاناة الشعب المغربي، وبأن عاهل المغرب يترك الشعب يحتضر بسبب خصومات واعتبارات سياسية، في وقت كان لزاماً عليه أن يضع جانباً جميع الحزازات السياسية، ويركز على الجانب الإنساني العاجل. وهو تصوير لا يتماشى مع الواقع ويفتقر إلى الأسس المنطقية! وفي نفس سياق الانتقاد اللاذع لملك المغرب، قامت مجلة "شارلي إيبدو" بنشر صورة كاريكاتيرية "مستفزة" حيث تم تصوير العاهل المغربي بجسم يمثل كتلة من الدولارات، وهو جالس على قطع جثث الضحايا.
إن بعض المنابر الصحفية الفرنسة قد تجاوزت حدود الانتقاد البناء وتغطية الفاجعة، إلى الهجوم المباشر والممنهج على المملكة المغربية، ضاربة بذلك أخلاقيات مهنة الصحافة وقواعدها.
ضاع لقب المنقذ الأول على فرنسا!
من خلال متابعتي لتغطية بعض المنابر الإعلامية الفرنسية، يمكن أن أخلص لنتيجة دقيقة وواضحة، لم يكن هم النظام الفرنسي أن يُنقَذ المغرب، بل إن غايته الأساسية هو أن يتم إنقاذ المغرب بفضل فرنسا!
إذ لم تستسغ فرنسا فكرة كونها لم تلعب دور "البطل المنقذ" في هذه القصة. فما إن وقع الزلزال في المغرب، إلا أن تسابقت الدول لعرض مساعداتها والتعبير عن مؤازرتها للبلاد، وقد استقبل المغرب بالفعل أكثر من 60 عرضاً من مختلف دول العالم.
ولم يعبر المغرب عن رفضه للمساعدات بأي شكل من الأشكال، ولم يصدر أي بيان يعبر عن عدم استعداده لاستقبال مساعدة من دولة معينة. فبالمنطق البسيط، يصعب على المغرب استقبال جميع المساعدات في اللحظة الراهنة، وذلك لأسباب منطقية: عندما تحدث كارثة في أي دولة، يجب على الدولة أولاً تقدير الخسائر وتحديد الاحتياجات العاجلة، ومن ثم التنسيق مع السلطات المحلية لتنظيم وتوجيه تلك المساعدات بشكل فعّال. وهذا بالضبط ما قام به المغرب.
حيث أعرب عن شكره لكافة الدول التي قدمت مبادرات المساعدة، إلا أنه كان حريصاً على ضرورة عقلنتها وتوحيد الجهود لصعوبة جغرافية مكان الزلزال في جبال الأطلس، تجنباً للوقوع في فوضى قد تنجم عنها كارثة أخرى. لذا تم انتقاء دول بعينها للمساعدة بناء على الحاجة المطلوبة والخصائص الذي يمكن أن تسده تلك الإعانات في المرحلة الأولى.
ومع ذلك، لم تستوعب بعض الدول هذا الأمر، وشعرت بأنها تفقد فرصتها لتظهر بمثابة "المنقذ". وهذا بالضبط ما حدث مع فرنسا.
خطاب ماكرون غير الموفق!
لم تكتفِ فرنسا بمهاجمة المغرب بشكل صريح، بل خرج رئيسها "إيمانويل ماكرون" بفيديو يخاطب فيه الشعب المغربي بشكل مباشر دون احترام لأي بروتوكولات سياسية ودبلوماسية. خطاب لم يكن موفقاً، ويمكن لنا القول إن الحنكة السياسية قد خانته بشكل واضح. الأمر الذي لاقى سخرية واسعة ولاذعة من نشطاء مغاربة على مواقع التواصل الاجتماعي!
وجدت فرنسا في زلزال المغرب فرصة لتلميع صورتها ومحاولة لترميم الشرخ الذي أصاب علاقتها مع الرباط، إلا أن المقطع المصور لـ"ماكرون" زاد من تأزيم الوضع بشكل أكبر ليس إلا.
لم يستطع النظام الفرنسي تخطي حقبة الاستعمار، فالعقلية الفرنسية ما زالت تتبنى استراتيجية استصغار الدول الأخرى لتشبع رغبتها في الظهور على شكل المنقذ الأوحد والمثقف المتنور المتحضر، معتمدة على تاريخها الاستعماري الطويل والذي بنيت قوته على استضعاف الآخرين ونهب ثرواتهم واستغلالها. ولا تزال تتبنى اللهجة المتعالية في خطاباتها الموجهة لدول أفريقيا، ظناً منها أن هذه الدول ستغرق في الظلام إذا ما غابت عنها نور العاصمة باريس، ولكن يبدو أن شبح الظلام بات يحلق بالفعل على سماء عاصمة الموضة بعد أن انقلبت عليها بعض الدول الأفريقية بشكل غير متوقع في الفترة الأخيرة.
المغرب.. "وكالة من غير بواب"!
لم تكتفِ فرنسا بخطاب رئيسها المباشر للمغاربة عبر المقطع المصور، بل تمادت إلى الإعلان عن زيارة له إلى المغرب. وهذا ما صرحت به وزيرة الخارجية الفرنسية "كاثرين كولونا"، فقد أعلنت في حديث لإحدى القنوات الإخبارية، عن برمجة زيارة للرئيس ماكرون إلى المغرب، بدعوة من الملك محمد السادس. فهل يعتقد ماكرون أن المملكة المغربية "وكالة من غير بواب"؟ قوبل تصريح الوزيرة بنفي مباشر وصريح من السلطات المغربية، حيث صرحت بأنه ليست هناك أي زيارة مبرمجة على جدول الأعمال.
تحاول فرنسا جاهدة أن تقدم نفسها على أنها الدولة الإنسانية، والمستعدة دوماً لبعث الحياة في مناطق الخراب، وبأنها أكثر حرصاً وخوفاً على المغاربة من أنفسهم، خاصة أنها بدأت تفقد نفوذها وسيطرتها السياسية والثقافية على دول أفريقية عدة.
تصرفات تجعلنا نطرح أسئلة عن مدى مهنية الإعلام الفرنسي، وتجعلنا نتساءل عن معنى حرية الصحافة، وما الحدود الأخلاقية للإعلام؟ وكيف يتم الركوب على فواجع الدول لتصفية الحسابات السياسية أو لتلميع الصورة دولياً؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.