كليلة ودمنة هو كتاب في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس، تجري أحداثه على ألسنة البهائم والطيور حتى تبدو الحكمة أوضح وأبلغ، ولتجذب أكبر عدد من فئات الناس المختلفة، صُنف في أربعة عشر باباً، كل منها يختص بحكمة معينة، بالإضافة إلى صفات العدل والكرم والأخلاق وإشاعة الحكمة بين الناس، سمي الكتاب باسم أخوين من بنات آوى، هما: كليلة ودمنة.. أخبارهما في الباب الخامس وهو باب الأسد والثور. والباب السادس وهو الفحص عن أمر دمنة.
ألفه بيدبا، الفيلسوف الهندي، بناءاً على طلب دابشليم ملك الهند، ترجمه من الهندية إلى الفارسية برزويه، الطبيب الذي بعثه ملك الفرس كسرى أنوشروان ليأخذ الكتاب من الهند ويستفيد منه ويجعله في مكتبته، ثم ترجمه إلى العربية عبد الله بن المقفع من الفارسية إلى العربية الذي كان مجوسياً يدعى زوربه بن دازويه، أسلم على يد عيسى بن علي العباسي، ثم صار كاتباً له واختص به.
جاءت فكرة الكتاب عندما طغى الملك الهندي دبشليم وتكبر، فاجتمع رجل فيلسوف من البراهمة حكيم يدعى بيدبا مع تلاميذه، فقرر أن يدخل على الملك ناصحاً ومضحياً بنفسه أمام ظلم الملك. عندما تقرأ أسلوب بيدبا في النصيحة يتبادر إلى ذهنك، لماذا استثقل الناس اليوم النصيحة؟ ولماذا لم تعد مقبولة أو يبادر إليها؟!
النصيحة لها أدب وذوق، فبيدبا الفيلسوف وجد طريقة للفت نظر الملك دابشليم، حيث أظهر له ما يليق بملك من الهيبة والتقدير، ثمّ بدأ كلامه بنصائح عامة دون إذلال نفسه وحكمته، وضرب له أمثلة وقصصاً ثم تطرّق إلى نصحه، دون إيذاء واتهام وفحش، غضب الملك واستصغر بيدبا، إلا أنه تراجع وجعله وزيراً له ومستشاراً، ثمّ طلب من بيدبا تأليف كتاب الحكمة حتى يخلّد اسمه مقروناً مع الكتاب، فقرر بيدبا مع رجل من تلاميذه نظم الكتاب على ألسنة الحيوانات؛ ليستميل إليه عوام الناس وخواصهم، فجاء على أربعة عشر باباً، وهي:
1. ضرورة الإعراض عن سماع كلام الفتنة والفساد.
2. عاقبة الأشرار ونتيجة أعمالهم.
3. في منفعة الأصحاب والأحباب.
4. عدم الوثوق في الأعداء.
5. مضار الإهمال والاستهتار.
6. آفة التسرع.
7. ضرورة الشدة وحسن التدبير.
8. عدم الثقة في الحاقدين.
9. أهمية الصفح والعفو.
10. أهمية الثواب والمكافأة.
11. الطمع.
12. الحلم والوقار.
13. ما يجب على الملوك سماعه.
14. في التسليم والتوكل.
تُرجم الكتاب إلى أكثر من لغة عالمية، وهو أيضاً من أشهر كتب التراث العربية المترجَمة في صدر الدولة العباسية.
وأنت تقرأ الكتاب تجد النصيحة موجودة بأسلوب يصل للقلوب قبل العقول، وتستشف أدباً في النصيحة فقدناه في زمننا، لذلك لم تعد النصيحة مطلوبة ومحبوبة، وأول أدب ألا يتكبر الناصح على المخطئ، فمع أن الملك مخطئ لم يقل له بيدبا إنه إنسان سيئ، بل استثار فيه كل شيم كريمة حتى عندما سخط عليه لم يتغير أسلوبه، وفي كل باب من الأبواب لم يذمّ المخطئ ويعيره، بل يُظهر التعاطف والرأفة به. إن هذا بالضبط ما تلاشى من الناصحين والمؤدبين في عصرنا الحالي، فتراه ينصح من برج عالٍ دون الإصغاء واحترام المقابل، وكأنهم ملائكة والناس شياطين، لذلك لم يعد أحد يحب تلقي النصائح.
إنّ للنصائح أدباً، وجب علينا تعلمه قبل الخوض فيه، فيجب أن يكون دافع النصيحة مصلحة الشخص أولاً وأخيراً، والخوف عليه من الشر، لا الخوف من كلام الناس، ولا دافع الحسد والبغض، ويكون الناصح مخلصاً في نصيحته، وهدفه منها الارتقاء بالشخص ودفعه نحو الأفضل، لا يغشه ولا يخونه، ولا يعيّره بذنبه، ويستره لا يفضحه، وتكون النصيحة بروح المودة لا تعنيف فيها ولا تشديد، وعليه أن يكون معه الحجة والبيان والمعرفة بكل ما يحيط النصيحة والشخص المراد نصحه، وأن تكون في السر؛ حيث يختار أفضل العبارات ويتلطف به ويلين له القول، ويتحرّى عن الشخص ولا يتهمه بما ليس فيه وينصحه بما يعرفه من الظنون، ويختار الوقت المناسب، فلا ينصح بوقت مصيبة أو حزن، ويكون عاملاً بما ينصح به وينظر لنفسه، ولطبيعة علاقته مع الشخص الذي يريد نصحه، فلا يقع في حرج ولا يؤذي من ينصحه، وليحسن الإصغاء حتى يتبين طريقة النصح الأنسب والأفضل.
تراك تقرأ الكتاب وتقول كم اختصرت من التجارب، وقد تدرك أشياء وجب عليك فعلها، وتحتاج أحياناً إلى إعادة قراءة بعض القصص لتدرك الحكمة منها، كثير منها تشبه قصصاً نعيشها في زماننا من الغدر والعاقبة الفساد والكلمة السيئة، فأحوال الناس منذ بدء الخليقة في الخير والشر نفسها، والنصائح موجودة نفسها في كل زمان وأمة، والكيّس هو من يستفيد منها ويستغلها، نحتاج مثل هذه الكتب لإعادة استغلالها ونشرها ودعوة الشباب لقراءتها حتى تكون لهم ذخراً في مواجهة الحياة والتغلب على صعوبتها، ولا ضير إن أعيدت كتابتها بلغة أسهل للناشئ العربي والمبتدئين في القراءة، دون المساس بالنص وصياغة القصص والحكمة الواردة فيها.
ينتهي الكتاب ولا تنتهي القصص والعبر، والحكمة ثابتة موجودة دائماً وغائبة عن حاضرنا ومدارسنا وجامعاتنا وعن أوطاننا كلها، كليلة ودمنة كتاب شيق لطيف يختصر لك أكثر من نصف تجارب العمر، ويصبرك بحكمته على ما فاتك، فلنعد إلى كتب التراث ونمسح عنها ما تكدّس عليها من النسيان والجهل بها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.