قرأت تقارير عديدة عن فيلم باربي، ولم أشاهده، فالأفلام إجمالاً لا تستهويني، اللهم إلا ما كتب من وحي قصة واقعية اجتماعية، أو كان جريمة أو لغزاً مثيراً، ولأني لم أرَ فيلم باربي، فإني سأتكلم عن فكرتين من وحي لعبة "باربي":
الفكرة الأولى وهي "القضية" التي نعاني منها في مجتمعاتنا العربية، وهي الأساسية، وفيها المغزى الذي أريد الوصول له، وهي أن كل بنت طبيعية تميل للزواج، وتحب إنشاء عائلة، وتسعد بأن يكون لها شريك حنون يقاسمها هذه الحياة، وينجبا أطفالاً تكتمل بهم هناءة الدنيا، وتُشْبَع بوجودهم عاطفة الأمومة، ولكن الطريق أصبح مسدوداً أمام أكثر البنات في عالمنا العربي، بسبب الحرص على الكمال والجمال بالمظهر والشكل. فالجمال ينحصر ويتحدد: بالطول، والنحول، والبشرة البيضاء، والشعر الأشقر، والعيون الملونة. فهذه معايير الجمال، وهذه صفات الفتاة المرغوبة والمطلوبة للزواج، والأكثرية يبحثون عن لوحة فنية، منحوتة كأحسن ما يكون وبأبهى حلة، وقلما يهتمون بالمضمون!
وللأسف ليست كل الفتيات بهذه المواصفات الدقيقة، وقل أن تجتمع الصفات كلها في فتاة واحدة. ولأن صفات الباربي شبه نادرة في عالمنا العربي، أصبح البحث عن مثلها مهمة طويلة وشاقة ومتعبة. وإن البحث عن فتاة بمواصفات الباربي فكرة قديمة جداً ومنتشرة في ديارنا، ومن قبل وصول لعبة باربي إلى أيدي بناتنا، ولقد كنا نرى الخاطبات على باب مدرستنا في دمشق وهن يلتقطن الشقراوات ويلاحقونهن ليحصلن على أرقام هواتف أهلهن، أو يمشين خلفهن كل الطريق حتى يصلن لعناوين بيوتهن. وأكثر الشقراوات تزوجن صغيرات، ولم يتمكنَّ من إتمام تعليمهن، ما جعل خبراتهن قليلة، وعانين في إدارة البيت، وفي تربية الأولاد. وليس عيباً ولا مُنْتقداً ولا حراماً أن يتطلب الخاطب، فالزواج للسكن وللعفة، فينبغي أن تكون الزوجة مريحة للنظر، ومطابقة للذوق، ولكن من سيتزوج الفتيات السمراوات، أو البيضاوات ذوات الشعر الأسود أو البني والعيون العسلية؟ والسؤال الأهم: هل الشقراء حقاً طلب كل شاب وهمه ومبتغاه؟ أم هي طلبات الأمهات؟! فلقد اطلعت على رأي مجموعة كبيرة من الشباب، من أقاربي ومن غيرهم، وعلمت علم اليقين أن كثيرين منهم لا يحبون هذه المواصفات ولا يميلون لها، وفتاة سمراء بشعر أسود ووجه جذاب وعيون لامعة نابضة بالحياة والعواطف، وطول معقول، وجسم غني… أحب إليهم من ناحية الشكل الخارجي.
وأما المضمون فكثيرون باتوا يتوقون لزوجة صديقة يُسرِّون إليها هموم الحياة فتكون لهم لباساً وسنداً، ولرفيقة يناقشون معها ما يشغل بالهم من قضايا، وتكون لهم ناصحة أمينة، ولصاحبة يتمتعون معها بالنزهات وبمباهج الحياة، ويتمنون فتاة ناضجة تتحمل معهم مسؤولية الزواج وهمومه. ولكن الأكثرية وقعوا بكارثة "التنميط" دون أن يشعروا، وصارت المواصفات تلقائية بالنسبة لهم، فيبحثون عنها دون العودة لرأي الشاب، وكأن كل أم تريد أن تفتخر بشكل زوجة ابنها وبجمالها الباهر، وكان لهذه الاعتبارات عدة مآلات:
1- جرح مشاعر البنات؛ إذ أصبحت أم الشاب تتطلب، وتسأل بجرأة مؤذية وممجوجة عن مدى توفر هذه المواصفات، فتتصل بعضهن بأم الفتاة وتسألها: "بنتك رز ببزاليا ولا مجدرة"! وتقصد بنتك بيضاء كالرز وعيونها خضراء كالبزاليا، أم سمراء كالبرغل وعيونها بنية كالعدس، ما جعل بعض الفتيات يرفضن خطبة الأمهات وزيارة التعارف الأولى لكيلا يتعرضن للموقف المحرج، ومنهن من عزفن عن الزواج كله.
2- كساد بعض البنات، وذلك رغم تحليهن بمواصفات الجمال العربي القديمة، كالامتلاء المقبول، والطول الطبيعي، والعيون البنية، والشعر الأسود.
3- ترسخ لدى البنات أن الجمال هو أهم ما فيها، ورأس مالها، وأن الجمال طريقها للنجاح في هذه الحياة، ووسيلتها للحصول على زوج جيد وغني، وعدم انطباق المواصفات عليها يهدد إمكانية زواجها، ويقلل فرصها بالحصول على زوج مناسب لها، وقد يجعلها تتزوج شخصاً لا تريده ولا ترتاح له، لأنه لم يتقدم لها سواه، ما يؤدي لأسرة غير مستقرة، ونكد وعصبية، ويدفع للحزن وللإحباط النفسي.
4- هذه المعتقدات جعلت الشقراوات يتعالين، وأصبحن يتمنعن، ويتشرطن ويتغالين بالمهور، ما أرهق جيوب الشباب.
5- المبالغة بالزينة، فهذه المواصفات الجمالية التعجيزية، أدت لرفع قيمة المظهر والشكل على حساب المخبر، ما دفع بعضهن دفعاً للتنافس بمجال الجمال، والمبالغة بالتبرج والماكياج، ويضعونه في كل وقت دون مراعاة للمناسبة أو المكان أو الزمان، فنرى على وجوه بعض الفتيات مكياج عرس، صباحاً، في رواق الجامعة!! وأصبح الاهتمام بالموضة أكثر من الأناقة، فتلبس بعضهن كل جديد ولو أبرز عيوب جسمها، فضلاً عن كونه غير شرعي ولا محتشم.
6- التحول لباربي، فمع استمرار هذه الاعتبارات ظهرت محاولات جادة ورغبة عميقة من الفتيات بالتحول لباربي؛ فبدأ سعار تغيير لون شعرها للأشقر دون التفكير بما سيتسبب لها ولفروة رأسها من فساد وإيذاء طويل المدى، واستعانت الفتيات بالعدسات الصناعية لتلوين عيونهن، رغم غلائها وأضرارها المحتملة على القرنية. وتهافتت الكثيرات على الكعوب العالية، وتتبعن كل منتج يدعي صانعوه أنه ينزل الوزن خلال أيام، فتعرضن لمشكلات صحية، واختل الأيض عندهن.
7- غبن الفتاة الجميلة، وظلم الفتاة الشقراء! فمع التدليس بالتجمل، أصبحت الشقراء الحقيقة تُظلم، ويُشكك بلون عيونها وهو أصلي، ويطلب منها إزالة العدسات!
8- الإسراف بالإنفاق على الكماليات؛ حيث احتلت مساحيق التجميل مرتبة عالية، وأصبحت بعض النساء تخرج للعمل لتؤمّن مصاريف الزينة. وعلى سبيل المثال بلغ إجمالي الإنفاق السعودي على مستحضرات التجميل أكثر من 500 مليون دولار أمريكي في عام 2015، وفقاً للهيئة السعودية العامة للجمارك.
9- الانصراف عن المعالي وأصبحت الأولوية لمتابعة الموضة ولكيفية وضع المساحيق، وطريقة عمل الماسكات، وهكذا انصرفت الفتيات عن التأهل لدورهن المستقبلي، إلى الاهتمام بـ"الجمال"، حتى صرنا نرى البنت الصغيرة تسعى للتجمل والتزين وتقف طويلاً أمام المرآة، وتنغمس الفتيات بالتجمل والعناية بالشعر والبشرة، أكثر من اهتمامهن بالتحصيل والدراسة، والمساعدة بالأعمال المنزلية.
10- أصبح الجمال يحتاج لعمليات جراحية؛ إذ وفي تطور أخير وليس الآخر (وربنا يستر من القادم)، انتقلنا لظاهرة أخطر، وتحولت مقاييس الجمال للعبث بخلق الله، والخضوع لعمليات نفخ، تغير الشكل كله وبشكل دائم، وهدفها فقط التجميل، والعجيب أنه كثر الإقبال عليها رغم وجود مساحة من الخطورة، ورغم الخوف من عدم نجاحها، ورغم آثارها الجانبية المحتملة، وأهمه: عدم إمكانية العودة عنها، ولا أدري: "حين تنتهي موضة الشفايف المنتفخة"، كيف ستستعيد الصبايا شفاههن الرقيقة؟! كل هذه العوامل والضغوط غيرت المرأة، ثم يأتي من ينسبُ -هذه التصرفات- لتركيبة المرأة، وحبها للزينة والحلي! ولا يعلمون أنه حصل بفضل توجيهاتهم وأفكارهم وجهودهم العظيمة، فاليوم ورغم كل ما عرفناه عن زيف جمال المشهورات، وعلى الرغم من تأكدنا بأن الفضل فيه لعمليات الشد والنفخ، والمكياج وطريقة التصوير، ما زال كثير من الرجال مغترين بذلك "الجمال" ويبحثون عن مثله، فتضطر الفتاة للمشي في هذا الطريق الوعر والمتعب.
وبعد الزواج تصبح المرأة في خطر حقيقي، من انصراف زوجها عنها… وأصبح الحامي الوحيد لها "جمالها"، فإذا أهملته أو فقدته خسرت كل شيء.. وهكذا تُدفع المرأة للاهتمام بشكلها، وتجعل قيمتها في جمالها، ويصبح كل همها أن تكون دمية حلوة متناسقة. وهنا الخطورة والقضية، ونصيحتي: لا تجعلي من نفسك دمية، ولا تأبهي لمقاييسهم المتغيرة، ولذوقهم الفاسد، وتغلبي على هذه المقاييس بعقلك وذكائك وكيدك ودهائك، وإن المرأة تذهب بعقل الرجل الحازم، ولا يشعر!
وأختم بالفكرة الثانية الثانوية، وهي عبارة عن نصيحة صغيرة للأمهات والآباء: إذ تحتاج العائلة لنشاطات ترفيهية مشتركة بين أفرادها، لتقوية العلاقات، ولصرف الأولاد عن الاشتغال بالأجهزة (ولو قليلاً).
وإن اجتماع الأسرة على رؤية فيلم كل مدة، أمر محبذ وفكرة تناسبهم جميعاً، وإنها لتسلية مقبولة في زماننا هذا، وقد تضحكون وتقولون: "ما الفائدة حين نصرفهم من لهو إلى لهو آخر، ومن الموبايل إلى التلفاز"؟ والجواب أننا سنصرفهم على الأقل لنشاط جماعي، و"لتسلية مدروسة"، و"بإشراف الأهل"، وتحت مراقبتهم وتوجيهاتهم. ولفيلم نظيف ومناسب، وفيه عبرة وله مغزى يعطيهم خبرة (أبلغ من التوجيه المباشر وأثبت).
فاجتهدوا بدراسة الأفلام، واختاروا ما يناسب الأسرة منها، وما يفيد أولادنا ويحرك فيهم عاطفة الرحمة مثلاً، أو يحثهم على قيمة إنسانية، ولا بأس بفيلم يكون فقط مسلياً ومضحكاً. وإن تهيئة الغرفة كما في السينما، بحيث تطفأ الأضواء، ويُعرض الفيلم على شاشة كبيرة، ومع سماعات قوية ومع بعض السناك الخفيف والمشروبات المفيدة، سيجعله نشاطاً نوعياً محبباً.
وقد يقود لفوائد أخرى: فكل طفل وكل ولد من أولادنا لديه اهتمامات، سواء بالرياضة أو بالسيارات أو بالصحة، وعرض فيلم وثائقي كل مدة يثري الصغار ويزيد ثقافتهم، وقد ينقلهم من تضييع الأوقات على وسائل التواصل، إلى الإفادة من المعلومات المتوفرة عليها. وهي فكرة مجربة وناجحة، وأولادي الخمسة كلهم، أصبحوا يتتبعون الخبرات، ويتوقون للتعلم (وإن كانوا كغيرهم يشاهدون الأفلام ويشاركون بالألعاب العالمية)؛ إلا أنهم استثمروها بشكل أكبر لتطوير أنفسهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.