نشرت طهران جنوداً ومعداتٍ عسكريةً على طول حدودها مع أرمينيا، تحديداً بالقرب من محافظة سيونيك الأرمينية. تطابق تقارير رصد ميداني بيَّن نشر طهران 35 مدرعة و20 دبابة و60 جيباً عسكرياً و10 مدافع طويلة المدى. ووفق هذه التقارير؛ شاركت بعض المسيرات في مراقبة الحدود لأول مرة منذ تكرار حالات التصعيد الإيراني على الحدود مع أرمينيا بعد عام 2020.
في إطار ذلك، تحاول الورقة قراءة التصعيد الإيراني بطرح تساؤلين: ما أسباب هذا التصعيد؟ وما هو مآله؟
عوامل أساسية لرفع التصعيد
السبب الرئيس لاتجاه طهران نحو رفع التصعيد يكمن في انطلاق أنقرة وباكو في العمل فعلاً على وضع أساس فتح ممر زنغزور الذي ينطلق من أذربيجان ويمر بإقليم ناختشيفان وصولاً لتركيا.
يقع إقليم ناختشيفان داخل أرمينيا، وهو إقليم أذري يتمتع بحكم ذاتي ويحاذي تركيا من جهة الشرق.
في حسابات طهران الاستراتيجية هذا الممر يشكّل خطراً استراتيجياً محدقاً بالأمن القومي الإيراني ومصالحه، إذ من شأن هذا الممر أن يتحول إلى خط جيوسياسي تستغله قوى كبرى كورقة تهديد/ضغط؛ موسكو من جهة وواشنطن من جهة، للتأثير في توجهات طهران سياسياً واقتصادياً.
أيضاً، بالنسبة لطهران يربط هذا الممر تركيا بأذربيجان مباشرة؛ ما يهدد الدور الإقليمي لإيران في القوقاز، وهذا يخل بتوازن القوى الإقليمي، ويزيد من مستوى النشاط السلوكي لأنقرة وباكو من مناورات عسكرية وإجراءات دبلوماسية مشتركة، يرافقها تطوير للقدرات العسكرية والاقتصادية المترابطة.
إن رغبت إيران في مواجهة هذا الخلل بالتعاون مع أرمينيا، فالأخيرة ليست جديرة بذلك.
إلى جانب ذلك، يُحيي الممر مشاعر القومية التركية في آسيا الوسطى؛ ما يهدد الأمن القومي الإيراني؛ حيث إن هناك قومية تركية كبيرة في إيران، وإيران هي دولة فارسية، بينما آسيا الوسطى -باستثناء طاجيكستان- تحتضن أكثر جالية تركية، وهذا مصدر قلق وتهديد جغرافي/ديمغرافي عميق لطهران ذات البنية العسكرية في أركان الدولة، وبتوجهها الأمني تجد طهران أمام هذه المعادلة ضرورةً لاستخدام التصعيد المستمر كوسيلة لإثبات قوتها الأمنية أمام أي تحرك في المحيط قبل أي مسار تفاوضي. إضافةً إلى كل هذه العوامل، فإن الممر يُفقد طهران أهميتها كممر تجاري بين الصين/آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية.
السبب الثاني لهذا التصعيد ينبع من اتساع نشاط الموساد في أذربيجان، إذ هناك اعتقاد لدى المخابرات الإيرانية بأن المسيّرات التي استهدفت وتستهدف الداخل الإيراني تنطلق من الأراضي الأذربيجانية.
السبب الثالث يركن إلى اصطدام طهران بمشروع بايدن الذي يربط الهند بدول الخليج وصولاً إلى أوروبا، وما تبعه من مناورات أمريكية-أرمينية جرت تحت عنوان "تعزيز التعاون لتطوير قدرات قوات حفظ السلام".
في طهران قُيّمت المناورات الأمريكية-الأرمينية على أنها تهديد مباشر للنفوذين الإيراني الروسي.
على الأرجح، من طرف إيران قُيّمت المناورات الأمريكية-الأرمينية في إطار وجود توجه فعلي لدى يريفان في عدم إنشاء ممر زنغزور، لكن في الوقت ذاته لا يمكن الاعتماد عليها بالكامل في هذا الصدد، ولا بد من تعزيز التحركات الإيرانية الذاتية أكثر.
في الوقت ذاته، جاءت هذه المناورات كفرصة لطهران تستغلها في تذكير لموسكو التي سبق أن أيدت إنشاء ممر رنغزور بأن أذربيجان وتركيا موئل جغرافي يشكل تهديداتٍ جيوسياسية طويلة الأمد للنفوذ الروسي في القوقاز.
موسكو كانت قد أيّدت مسبقاً افتتاح الخط للتخلص من كلفة التعاون الأحادي مع يريفان، وإحراز سيطرة جغرافية مباشرة على خطوط نقل الغاز الأذربيجانية، وكذلك التجارة المتبادلة بين الصين/آسيا الوسطى وأوروبا لتحقيق نفوذها في آسيا الوسطى ضمن استراتيجية "الأوراسيانية".
تجدر الإشارة إلى أن الموقف الروسي حيال إنشاء ممر زنغزور لم يتغيّر جذرياً بعد هذه المناورات، لأن التحرك المفاجئ جاء من أرمينيا وليست تركيا.
يكاد يكون الموقف الروسي مائلاً إلى التزام الصمت في الوقت الحالي، لجهة عدم وجود رغبة روسية للتصعيد ضد حلفائها وخصومها في أي بقعة جغرافية خارج أوكرانيا لتفويت فرصة إنهاكها. لكن ذلك لا يمنع من توجه موسكو صوب التعاطي مع تحركات يريفان ومناوراتها مع واشنطن من خلال رفع مستوى التنسيق مع كازاخستان والدول الأخرى في إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي، حيث يمكن أن تزيد عدد قوات حفظ النظام المنحدرة من دول هذه المنظمة. وفي ذلك سيكون رسالة مباشرة لأرمينيا لتُدرك بأن تحركها عكس التيار سيُواجه بحسم يأتي عبر تحرك إقليمي جماعي يؤدي إلى اتساع التوتر داخل أراضيها.
في ظل طبيعة الموقف الروسي السلبي، فإن طهران على الأرجح ستمضي قُدماً في التعاون مع يريفان التي لا تزال موجودة في بعض مناطق إقليم قره باغ الفاصل بين أذربيجان وإقليم ناختشيفان، لا سيّما أن المناطق التي تنتشر فيها القوات الأرمينية توجد بها أيضاً قوات روسية باسم قوات حفظ السلام. إلى جانب ذلك، هناك منطقتا لاتشين وميغري الأرمينيتان اللتان تمنعان تأسيس الممر في حال ماطلت يريفان فعلاً.
أيضاً، ستتجه طهران إلى استغلال الانشغال الروسي برفع مستوى النفوذ والتهديدات الجغرافية والعسكرية وصولاً لإحداث اضطرابات أمنية غير مباشرة؛ استخبارية، داخل الأراضي الأذربيجانية أو إقليم قره باغ بغية تثبيت بعض قواعد الاشتباك على الأرض، وهذا ما انعكس بعضه واقعاً على الأرض، وهذا ما أدى وسيؤدي إلى مناوشات تحدث بسبب رغبة باكو في مواجهة هذه التحديات بإجراء عمليات عسكرية.
في هذا السياق، زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان طهران مطلع سبتمبر/أيلول الجاري ملتقياً نظيره الإيراني.
وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان اقترح على فيدان العمل على تطوير ممر جغرافي يمر عبر إيران، مُشيراً إلى قبول طهران بتفعيل المنصة السداسية التي تضم: تركيا وأذربيجان وروسيا وإيران وجورجيا وأرمينيا. وكانت أنقرة هي من اقترحت هذه المنصة.
رد فيدان بصعوبة تحقيق ذلك في ظل صعوبة انضمام طهران إلى مجموعة العمل المالي التي تحظى بمعايير لمكافحة غسل الأموال وتمويل الميليشيات وانتشار التسلح، والتي تضمن تدفق أموال التعامل المالي دون عقبات قانونية.
عبد اللهيان أشار إلى أن الممر لن تقبل به إيران بالتفاوض أو العروض التي من شأنها تغيير الشكل الجغرافي، وبذلك تُرك الأمر معلقاً بين الطرفين.
خلاصة القول؛ تركيا وإيران ماضيتان في تبادل التصريحات الإعلامية والتهديدات الأمنية في جغرافيا القوقاز ومناطق أخرى؛ سوريا والعراق. والتصعيد الإيراني سيكون أقوى باعتبار أن طهران تشعر بتهديدٍ مباشر لأمنها القومي. والمعضلة الأمنية مستمرة بين الطرفين إلى أن تتفرغ موسكو ويتم اقتراح حل وسط ربما لشبكة طرق تشترك فيها طهران ضمن ممر زنغزور دون عزلها عنه بالكامل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.