الدراسة في مصر.. تمثيليةٌ بلا معنى

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/21 الساعة 10:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/21 الساعة 10:53 بتوقيت غرينتش
طلاب في إحدى الشوارع المصرية/ shutterstock

مع اقتراب موعد بداية الدراسة للعام الجديد، تعلو البيوت المصرية الكآبة، ويَرهَقُ وجهها قَتَرٌ وقَهر؛ فالدراسة في مصر عبارة عن سلسلة من المهازِل والترّهات التي تستنزف الأرواح والجيوب، لذلك لا عجب إذا وجدت أنَّ الكلَّ يعتبر بداية الدراسة مأتماً، لا حدثاً يستحق الاحتفال كما يحدث في الدول المتقدِّمة.

وهذا ليس كلاماً أُلقيه على عواهنه، أو أؤلِّفه من خيالي الحر، بل هو مأخوذٌ مِن نبض الشارع المصري، ومن ألسنة أولياء الأمور قبل الطلبة.

فالآباء لا يقصم ظهورهم إلا مثل تلك المواسم. واسأل أي واحدٍ منهم إن شئت عن راتبهِ فيما أفناه في أول الشهر، وقتها سيكتم آهاته التي تتقدُ في قلبه، وسيحدّثك عن دروس الأولاد وإهانتها لجيبه المتواضع، وأسعار الكتب التي ارتفع صوتها على صوت فقرهم الغائر. سيحدّثك أيضاً عن الملازم التي لا آخر لها، وعن مواصلات الأولاد للدروس، ومَشيهم على لحم بطنهم طوال اليوم توفيراً لأي قرشٍ أبيضٍ ينفع الأسرة في تلك الأيام السوداء. ولتحتملْ حينها انهمار دموع ذلك الأب الشقيان، لأنّه لا يجد مخرجاً من قهره هذا، فقد كثرتْ عليه المسؤوليات، والتفَّتْ حول عنقه هموم الدنيا، فصارت الحياة كلها بالنسبة له لا تعدو كونها مشنقةً لا أكثر.

وفي هذا الصدد، أذكر أنّي كنت منذ بضعة أيامٍ، راكباً الميكروباص قاصداً عملي. وقتها ركبت امرأةٌ أربعينية ومعها ابنتها الشابّة. وبعد ركوبهما، لاحظ السائق أن أجرتهما ناقصة، فأخبرهما بذلك، ولو أنّ المسكين يعلم ما أمرهما لسكت عنهما.

شعرنا، أنا والسائق، أنّ هذه المرأة كانت تنتظر أي أحدٍ يستثير الألم فيها، كي تستفرغه من قلبها. وهذا ما أوحى به إلينا كلامها الموجع، فقد أخذت تتحدث عن ظروفهم المعيشية المتدهورة، ثم عرجت على موضوع الدروس والملازم وأكَّدتْ أنّها السبب، ثم حدَّثتنا عن انهيار راتب زوجها الذي لا يعدو 5 آلاف جنيه، أمام كل هذا العبث. وكانت تتحدث بنبرةٍ مفعمةٍ بالقهر، وقلبٍ مُشبعٍ بالحَسْبَنةِ على كل من صعَّبوا الحياة على البشر. وراحت تسترسل في حديثها حتّى تجاوب معها السائق وبَثَّها حزنه وهمَّه هو الآخر، فحدَّثها عن دروس عياله وعجزه عن مجاراة هذا الغلاء، مؤكِّداً أنَّ الدنيا لم يعد فيها خير. وظلا يتحاكيان في هذا الشأن، إلى أن نزلتْ المرأة وابنتها من الميكروباص في صمتٍ مهيب، حينها نظر إليَّ السائق وقال بنبرةِ شعبٍ كامل: "الناس تعبانة والله!". وإلى نهاية المشوار لم ينبس ببنت شفةٍ، لكنَّ قلبه كان يسبُّ ويلعن، بينما كانت عينه مثبَّتة على الطريق في خوفٍ من القادم، كأنَّ لسان حاله يقول: "على فين واخدنا يا ميكروباص؟".

والأمر نفسه ينطبق على الطلبة، فهم يذهبون إلى دروسهم وجامعاتهم وفي قرارة أنفسهم يقينٌ بأنّهم لن يستفيدوا شيئاً من هذا الهراء، فهم على درايةٍ بأنّهم محض ممثلين في تمثيليةٍ كوميدية تُبكي حتّى الأذقان.

ورجاءً، لا تسألهم عن شغفٍ أو عملٍ أو أي خيالٍ من هذا القبيل،

فالمعلوم من البلد بالضرورة أن التعليم هنا مجرد ورقةٍ لا فائدة منها سوى أن يمسح الطلبة بها دموعهم، لذلك ليس بغريبٍ أن تجدهم سائرين بلا أيّ حافزٍ سوى أن يتخلَّصوا من تلك اللقمة التي تقف في حلقهم.

وليس بغريبٍ أيضاً أن تجد بعضهم يشعر بالذنب لأنّه يحسُّ بإتعابه لأهله معه. وستجد هذا شائعاً جداً في بُعبُع الثانوية العامة والأزهرية، فمال العائلة كله يضيع على الدروس، وعلى مصاريف السناتر التي لا تستحرم نهبَ أولياء الأمور والطلبة عياناً بياناً.

فالشباب جميعاً لا يجدون فائدةً مِن هذا الضحك على الذقون الذي يُسمّونه في بلدنا "تعليماً"، وأولياء الأمور يفكِّرون بجِدِّية في إخراج أبنائهم من التعليم، كي يشتغلوا أي صنعةٍ أفيد لهم.

إذاً، ستجد أنَّ أولياء الأمور كاظمونَ غيظهم من هذه المنظومة التعليمية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وستجد الطلبة يدعون الله بأن يُجاوزَ بِهم هذا البحر المليء بالظلام والأوهام.

فإن الحال تصل بهم في بعض الأحيان لانعدام الرغبة في السعي، فهم يعلمون نهاية الرواية، ويدرون أن بطلها سيختتمها وهو مُقلَّد الخيبات، لكنهم على كل حالٍ يسيرون، لا لشيءٍ سوى الطمع في نيل الحرية. وفي أحيانٍ أخرى تراهم يسيرون مع الساقية، ولا يفعلون شيئاً إلا الصمت، فهو كاتم الصوتِ لهذا الصراع الذي يغتالهم، ويقودهم إلى القلق، واليأس، والخوف من الفصول القادمة من الحياة.

والسؤال هنا، إذا كانت هذه هي الحال، أفلا يحقُّ للبلدِ أن تذهبَ نفسها حسراتٍ على هؤلاء الشباب التعساء؟ بل هناك سؤال أعمق.. هل ستقوم للبلد قائمة بعد اليوم إذا ظلَّتْ الحكومة مستعصمة بموقفها هذا؟

خليقٌ بها أن تنظر بعين العناية والحرص إلى تحسين التعليم بجدّية، وذلك إذا أردنا النجاة جميعاً. وهذا ليس اختيارياً بل إنه إجباري، كي نقوم من كبوتِنا ونسير مثل خلق الله، فهل يَكُبُّ البلاد على وجهها إلا حصائد إهمالها في التعليم؟! سأترك الإجابة لأولي الأمر مِنَّا!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عماد عيد
كاتب ومدون
كاتب ومدون
تحميل المزيد