"يجب أن نثق بالجماهير وأن نثق بالحزب، هذان مبدآن أساسيان. وإذا شككنا في هذين المبدأين فلن نستطيع إنجاز أي شيء"
ماو تسي تونغ
لا تزال الثورة الصناعية الصينية تحاول بكل ما أوتيت من عزم وقوة، الوصول إلى الاستقرار الذي لطالما طمحت إليه، فمن ريادتها الصادرات العالمية، إلى منافستها الشرسة أمام قطب العالم الأقوى في ظل ما تعانيه من عقوبات جماعية ومحاولات مستمرة للإيقاع بها، لا تزال محاولاتها مستمرة، ولكن أي قوة اقتصادية تلك التي كانت ستقف صامدة في وجه وباء كورونا المدمر؟
في نهاية عام 2022، ظهرت آفاق اقتصاد الصين بمظهر مشرق، مما أثار آمالاً كبيرة في استعادة النمو الاقتصادي العالمي. بعد فترة 3 سنوات من فرض إجراءات صارمة مثل قيود الحركة والإغلاقات المطولة التي تسبب بها وباء "كورونا".
قررت الحكومة الصينية فجأة التخلي عن سياستها الصارمة المعروفة بـ"صفر كوفيد". والتي كانت تؤثر سلباً على الاقتصاد الصيني بشكل كبير، حيث أدت إلى كبح الطلب الداخلي وتعثر الصناعة وتسببت في مشاكل في سلاسل التوريد.
بعد تغيير هذه السياسة، شهدت الأسواق العالمية ارتفاعاً في أسعار النفط والنحاس وسلع أخرى نتيجة توقعات بزيادة الطلب الصيني. وفي مارس/آذار من نفس العام، أعلن رئيس الوزراء الصيني آنذاك، لي كه تشيانغ، عن هدف لنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة تقدر بحوالي 5%، فيما توقع العديد من المحللين الدوليين أن يتجاوز هذا الهدف بكثير.
بدأت بعض القطاعات الاقتصادية في الصين تسجل نمواً بالفعل، حيث أسهم الطلب المحلي المكبوت في انتعاش القطاعات المرتبطة بالسياحة المحلية والضيافة، وشهدت صادرات البلاد ارتفاعاً في الأشهر الأولى من عام 2023، وعلى الرغم من معاناة سوق العقارات السكنية في الصين لفترة طويلة، فإنها بدأت في استعادة بعض زخمها.
ولكن في نهاية الربع الثاني، بدأت الأمور تأخذ منحنى آخر، إذ أظهرت بيانات الناتج المحلي الإجمالي الأخيرة نمواً ضعيفاً، وبدا أن الاقتصاد الصيني يتجه نحو التباطؤ. مما أثر سلباً على الاستثمارات الأجنبية، وزاد تفضيل الأسر الصينية لتخزين مزيد من أموالها في حسابات البنوك، ليصدر مجلس الدولة في يوليو الماضي خطة من 20 بنداً لتشجيع السكان على زيادة الإنفاق في قطاعات اقتصادية عدة، مثل السيارات والسياحة والأدوات المنزلية.
هذه الاتجاهات تعكس قرارات فردية واستراتيجية الشركات في الاقتصاد الكلي على المدى البعيد، وتشير بشكل قوي إلى قلق الناس والشركات في الصين من فقدان وصولهم إلى أصولهم، وتفضيلهم للسيولة القصيرة الأمد على الاستثمار. هذه المؤشرات لم تعد تعكس الحالة الاقتصادية الطبيعية قبل جائحة كوفيد-19، وهذا يظهر وضعاً اقتصادياً عكسياً، مقارنة بواقع الاقتصاد في الولايات المتحدة وغيرها من الدول.
ويبدو أن الأسواق المالية وحتى الحكومة الصينية نفسها لم تتعامل بشكل كافٍ مع خطورة هذا التراجع، الذي من المرجح أن يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي لعدة سنوات قادمة. يمكن وصف هذا الوضع بأنه "اقتصاد كورونا طويل الأمد".
ولعل عدم امتثال الصينيين بنصيحة زعيمهم ماو تسي تونغ التي ذكرتها في البداية وعدم ثقتهم بالحكومة والحزب، زاد من حجم الأزمة الاقتصادية في البلاد وخلق حالة من اليأس المجتمعي حيال المستقبل.
منذ بداية سياسة "الإصلاح والانفتاح" في الاقتصاد الصيني في أواخر السبعينيات، والتي كانت تعني "أن تقوم بتحديث اقتصادك بشكلٍ يرفع من قيمة العمل والإنتاج فيه، ويرتفع معه مستوى حياة الناس وتعليمهم وخدماتهم، وأن تصبح لديك قاعدة علمية وصناعية ترفد هذا الاقتصاد" بقيت الحكومة الصينية تتجنب بشكل متعمد التدخل في القطاع الخاص لمدة أطول من أغلب الأنظمة الاستبدادية الأخرى. ومع ذلك، في عهد الرئيس شي جين بينغ، وخاصةً منذ بداية الجائحة، شهد الحزب الشيوعي الصيني انتقالاً نحو المزيد من التدخل والتنظيم.
يبدو أن استراتيجية الصين في مواجهة جائحة كوفيد-19 كانت تختلف عن تلك المتبعة في العديد من الاقتصادات الكبيرة الأخرى. فبينما شهدت دول أخرى إجراءات إغلاق مماثلة في مراحل مبكرة من الجائحة، إلا أن الصين اعتمدت سياسة "صفر كوفيد" بشكل صارم وغير منسجم، مما أثر بشكل كبير على الحياة اليومية والنشاط الاقتصادي.
وفي نهاية عام 2022، قررت الحكومة الصينية التخلي عن سياستها الصارمة بعد موجة من الاحتجاجات الشعبية، مع ذلك، يجب أن نلاحظ أن هذا التغيير المفاجئ في السياسة كان لا يزال يثير القلق بين الصينيين، حيث يظلون يعتمدون على مشيئة الحزب وتقلباته في حياتهم الاقتصادية. هذا النهج المتقلب يجعل التخطيط للمستقبل واستثمارات الشركات أموراً صعبة ومعقدة.
سياسة الباب المفتوح
كان المسؤولون الأمريكيون وحلفاؤهم يواجهون تحديات كبيرة في التعامل مع تصاعد القوة الصينية، وهذه التحديات شملت القلق بشأن الاقتصاد الصيني الحالي. فقد بدأ بعض المسؤولين بالنظر إلى نمو الصين السريع على أنه تهديد للتوازن العالمي، ولكن اليوم بدأ الغرب عموماً يرى أن الوضع الاقتصادي الصيني الراهن ربما يمكن أن يقدم فرصة للضغط على بكين.
ولكن ينبغي أن يدرك الجميع نقطة مهمة ألا وهي، أن انخفاض معدلات النمو في الصين وعدم استقرار اقتصادها قد يكون له تأثيرات سلبية على الاقتصاد العالمي، بما في ذلك الولايات المتحدة. فإذا استمر الصينيون في تفضيل التوفير في الودائع المصرفية بدلاً من الاستثمار، واستمروا في الإنفاق على الخدمات المحلية بدلاً من الاستثمار في التكنولوجيا والسلع الاستهلاكية الأخرى التي تتطلب الواردات، فإن العجز التجاري الكلي مع باقي العالم سيستمر في الزيادة – بصرف النظر عن أي جهود للحد منه. وعندما تضرب أزمة اقتصادية عالمية جديدة، فإن نمو الصين لن يكون قادراً على تحفيز الطلب العالمي كما فعل في المرة السابقة.
لذا، يجب على المسؤولين الغربيين أن يعيدوا تقييم توقعاتهم وتصوراتهم المستقبلية. على الرغم من التحديات الاقتصادية التي تواجهها الصين، يجب ألا يستبعدوا بسهولة استمرار تأثير الصين على الاقتصاد العالمي. حيث إن الاعتماد المتبادل بين الاقتصادات العالمية يعني أن أي تدهور في الوضع الصيني سيكون له تأثيرات واضحة على مختلف القطاعات الاقتصادية في العالم.
ديناميات الاقتصاد الصيني لن تستمر على ما هي عليه إلى الأبد. وفقاً لمراقبين عديدين، فإن نسبة البطالة في الصين التي تجاوزت الـ 20% في يونيو/حزيران الماضي- (قبل توقف الحكومة عن الإعلان عنها)- تشكل قلقاً متزايداً، وخاصةً بين العمال الذين تلقوا تعليماً جيداً، مما قد ينعكس بالسلب بشكل كبير على الاقتصاد الصيني.
أما بالنسبة لأولئك الذين يملكون وسائل مالية، فإن بعضهم قد بدأوا بالفعل في تأمين مستقبلهم بأنفسهم. في وجه عدم الاستقرار، يقومون بنقل توفيراتهم إلى الخارج، ونقل إنتاج الأعمال التجارية والاستثمار إلى الخارج، وحتى هجرة بعضهم إلى أسواق أقل توتراً. مع مرور الوقت، ستصبح مثل هذه الانتقالات أكثر جاذبية بالنسبة لفئات أوسع من المجتمع الصيني.
وهنا ربما يرى الغرب فرصة لاحتواء هيمنة الصين اقتصادياً، بالعمل على جذب الشركات الصينية والمستثمرين والطلاب والعمال الصينيين الذين يغادرون بحثاً عن فرص أفضل، مما سيساهم جزئياً في تعويض التكاليف الاقتصادية الكبيرة التي تكبدتها الجبهة الغربية خلال صراعها التجاري مع الصين.
في المقابل، نرى السياسات الحالية للغرب تتعامل بشكل براغماتي أكثر في صراعها مع الصين، فبنظر السياسات التي أقرتها كل من إدارتي دونالد ترامب وجو بايدن، نلاحظ السعى إلى إغلاق الجامعات والشركات الأمريكية أمام الطلاب والعمال الصينيين. وتقيد الاستثمار الأجنبي الوارد وتدفقات رأس المال الواردة. وبالتالي هذه السياسات تقلل من الضغط الهابط على اليوان وتقلل -في نظر الشعب الصيني العادي- من التناقض بين تصرف حكومتهم وتصرف الولايات المتحدة والغرب عموماً.
إزالة معظم العقبات أمام المواهب ورؤوس الأموال الصينية لن تؤدي إلى تقويض ازدهار الولايات المتحدة وحلفائها أو أمنهم القومي. ولكنها ستجعل من الصعب على بكين الحفاظ على اقتصاد متنامٍ يكون في نفس الوقت مستقراً ومعتمداً على الذات وتحت سيطرة حزبية صارمة. مقارنة بالاستراتيجية الاقتصادية الحالية للولايات المتحدة تجاه الصين، والتي هي أكثر برغماتية وتقييداً.
مع تعرّض الاقتصاد الصيني لتحديات متعددة نتيجة لمتلازمة الكوفيد الاقتصادية الطويلة، ربما سيسعى صانعو السياسات في الولايات المتحدة والدول الأوروبية لإعادة النظر في استراتيجيتهم تجاه الصين، ولن تكون هذه أول مرة يفعلها الغرب والولايات المتحدة خصوصاً، فهي من فتحت أبوابها للعقول والطاقات ورؤوس الأموال التي جاءتها مهاجرة من الدول العربية والأوروبية على حد سواء، فساهمت في بنائها وتطويرها إلى أن أصبحت على ما هي عليه اليوم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.