بعد فيضانات ليبيا التي أغرقت الآلاف.. ما أحكام الموت غرقاً في الشريعة الإسلامية؟

عدد القراءات
1,434
عربي بوست
تم النشر: 2023/09/19 الساعة 08:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/19 الساعة 09:46 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/ shutterstock

من سنن الله تعالى الماضية في خلقه التي لا تتغير ولا تتبدل إلى قيام الساعة سنّة الموت، الواقعة على كل مخلوق من ملائكة وإنس وجن وحيوان، إنّها الحقيقة الكبرى، كل حي سيفنى، وكل إنسان سيواجه هذا القضاء الحتمي، في يوم معلوم ووقت معلوم، صغيراً أم كبيراً، شاباً أم كهلاً، صحيحاً أم مريضاً، فإذا جاء الأجل، وحقّ القضاء، خرجت الروح إلى بارئها، فإذا العبد في عداد الأموات: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، [الرحمن: 26، 27].

وقد تعددت أسباب الموت، وجعل الله سبحانه أعلاها منزلة وأشرفها مقاماً الموت في سبيل الله، حيث سمّاه الله شهيداً، لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة، كما قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، [آل عمران: 169، 170]. ومن كرم الله تعالى وتفضّله على خلقه أن جعل أجر بعض أسباب الموت كأجر الشهادة الكبرى في سبيل الله، لما فيها من شدة وألم على صاحبها، ومن ذلك الموت غرقاً، فهو من أسباب الشهادة، ومن مات غرقاً نال منازل الشهداء في الآخرة إن لم يتعمد ذلك، وجاء في الحديث عن أبي هُرَيْرةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: "الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ: المَطعُونُ (أي الميّت بسبب مرض الطاعون)، وَالمبْطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحبُ الهَدْم وَالشَّهيدُ في سبيل اللَّه".

فقرن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذه الأسباب الأربعة مع الموت في سبيل الله، إيذاناً بفضلها، وإشارة إلى عظيم منزلتها.

والغريق من شهداء الآخرة؛ لأنه ينال منازل الشهداء في الآخرة، ولكن تختلف أحكامه في الدنيا عن أحكام الشهيد في سبيل الله، وهو الذي يموت في قتال الكفار، فيُغسّل الغريق ويُصلى عليه، بخلاف الشهيد في سبيل الله. 

قال النووي: قال العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة بتفضل الله تعالى بسبب شدتها وكثرة ألمها. وقال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضَّل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها تمحيصاً لذنوبهم، وزيادةً في أجورهم، يبلغهم بها مراتب الشهداء.

 1- معنى الشهيد لغة واصطلاحاً:

أ. الشهيد لغة: لفظة (شهيد في اللغة) صفة على وزن فعيل مأخوذة من الفعل: شهِد يشهد من باب (فرِح)، بمعنى حضر، فالشهيد هو الحاضر، ومنه الشاهد، أي الحاضر مع المعاينة. 

ب. الشهيد اصطلاحاً: أما في الاصطلاح فتطلق لفظة الشهيد عموماً على المقتول في سبيل الله، يقال فلان استشهد. والجمع شهداء، والاسم شهادة، وتطلق كذلك على أسماء مخصوصة ممن لم يقاتلوا في سبيل الله، كما جاء ذكرهم في السنة النبوية، ومنهم الغريق، ولهم أحكام في الدنيا تختلف عن أحكام الشهداء في سبيل الله، كما سيأتي.

وسمي الشهيد شهيداً، لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة، وقيل سموا شهداء: لأنهم ممن يشهدون يوم القيامة مع النبي صلى الله عليه وسلم على الأمم الخالية، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. وقيل سمي بذلك لأن الشهيد حيّ. وقال الراغب الأصفهاني: سمي بذلك لحضور الملائكة إيّاه، إشارة إلى قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. 

2- أنواع الشهداء:

قسم علماء الإسلام الشهداء من حيث أحكامهم في الدنيا والآخرة إلى ثلاثة أنواع:

‌‌أ. شهيد في حكم الدنيا والآخرة: وهو شهيد المعركة، أما حكم الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه عند الجمهور كما أبنت، وأما حكم الآخرة فله ثواب خاص وهو الشهيد الكامل الشهادة.

‌‌ب. وشهيد في حكم الدنيا فقط: وهو عند الشافعية: من قُتل في قتال الكفار بسببه، وقد غل من الغنيمة، أو قتل مدبراً، أو قاتل رياء أو نحوه، أي لا يغسل ولا يصلى عليه، ولا ثواب له في الآخرة.

ج. شهيد في حكم الآخرة فقط: كالمقتول ظلماً من غير قتال، والمبطون إذا مات بالبطن، والمطعون إذا مات بالطاعون، والغريق إذا مات بالغرق، لقوله صلّى الله عليه وسلم: "والشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهَدْم، والشهيد في سبيل الله".

وحكم هؤلاء الشهداء في الدنيا، أي شهداء الآخرة، أن الواحد منهم يغسل ويكفن ويصلى عليه اتفاقاً كغيره من الموتى. أما في الآخرة فله ثواب الآخرة فقط، وله أجر الشهداء يوم القيام.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: وقد اجتمع لنا في الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة، وذكر منهم: اللديغ، والشريق، والذي يفترسه السبع، والخارّ عن دابته، والمائد في البحر الذي يصيبه القيء، ومن تردّى من رؤوس الجبال. فهذا يحصل على أصل ثواب شهيد المعركة، ولكنه لا يُعامل في الدنيا معاملة شهيد المعركة؛ بل يُغسل ويُكفن ويُصلَّى عليه. 

وقيل سُموا بذلك لأنهم يشهدون ما أعدّه الله لهم في الآخرة من نعيم. وذكر غير ذلك من الأقوال وكلها أسماء طيبة توحي بشرف المنزلة وعظيم الكرامة التي أعدّها الله لهم.

3- أحكام الغَرقى في الشريعة الإسلامية:

أ. وجوب إنقاذ الغريق والاجتهاد قدر المستطاع في ذلك:

إغاثة الغريق والعمل على إنجائه من الغرق واجب على كل مسلم متى استطاع ذلك، ولذلك قرر الفقهاء أن أعظم الأعمال الدنيوية والدينية تقطع لإنقاذ الغريق، وإحياء نفسه، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، ومثلوا على ذلك بالصلاة، يقول الفقهاء: يجب قطع الصلاة لإغاثة غريق إذا قدر على ذلك، سواء أكانت الصلاة فرضاً أم نفلاً، وسواء استغاث الغريق بالمصلي أو لم يعيّن أحداً في استغاثته، حتى ولو ضاق وقت الصلاة؛ لأن الصلاة يمكن تداركها بالقضاء بخلاف الغريق.

ب. حكم ترك إنقاذ الغريق:

اتفق الفقهاء على أن المسلم يأثم بتركه إنقاذ الغريق معصوم الدم. قال الجصاص: وعلى كل أحد أن يُنجّي غيره إذا خاف عليه التلف، مثل أن يرى إنساناً قد قصده غيره بالقتل، أو خاف عليه الغرق وهو يمكنه تخليصه. 

وقال الشوكاني في كتابه السيل الجرار: ‌لا ‌شك ‌أن ‌إنقاذ ‌الغريق من أهم الواجبات على كل قادر على إنقاذه، فإذا أخذ في إنقاذه فتعلق به حتى خشي على نفسه أن يغرق مثله فليس عليه في هذه الحالة وجوب لا شرعاً ولا عقلاً، فيُخلّص نفسه منه ويدعه، سواء أكان قد أشرف على النجاة أم لا، بل ظاهر قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، أنه يجب عليه تخليص نفسه. والآية هذه وإن كانت واردة على سبب خاص كما في سنن أبي داود وغيرهما، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول.

فإذاً، ينظر في تقاعس المتقاعس عن نجدة الغريق، فإن كان عن خوف تلف فلا شيء عليه، وإن كان عن تقصير فهو آثم، بل أوجب بعض أهل العلم عليه الضمان، وهو وإن كان جمهور أهل العلم قد رجحوا خلافه إلا أنه يدلّ على عظيم إثم من فرط مع قدرته على الإنقاذ. 

ج. الغرقى شهداء: 

جعلت الشريعة الإسلامية الغرقى من الشهداء كما مر، للأثر الصحيح: الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله. فمن مات غرقاً سواء أكان ذلك في البحر، أو النهر، أو بسبب الأمطار والفيضانات كما حدث أخيراً مع أهلنا في درنة، فهو شهيد عند الله تعالى.

الفيضانات خلّفت آلاف القتلى في درنة – رويترز

د. إرث الغرقى:

الغرقى إذا لم يعلم أيهم مات أولاً، فلا يرث بعضهم من بعض، وإنما يحصل ميراث كل واحد منهم لورثته الأحياء، وهذا قول أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. قال أحمد بن يوسف الأهدل: إذا مات متوارثان فأكثر، ‌بنحو ‌غرق أو هدم أو حريق أو في معركة قتال، أو ما توا بحادث زلزال أو بحادث عام كانقلاب مركبة أو سقوط طائرة أو تحطم سفينة أو غيرها من الأسباب، وجُهل موت الأسبق، أو ماتوا معاً، ولم يُعلم موت المتقدم منهم مِن المتأخر، فحكمهم في الميراث: ألا يرث أحد منهم من الآخر الهالك معه، بل تكون تركة كل منهم لباقي ورثته، وكأنّه لا قرابة بينهم، وذلك لفقد شرط من شروط الإرث وهو: تحقّق حياة الوارث عند موت المورِّث. 

أحكام ديون الغريق:

والشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين؛ لما رواه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين، فإن جبريل (عليه السلام) قال لي ذلك. فليس من أجر الشهادة العفو عن حقوق العباد، فهذه لا تسقط إلا بعفو أصحابها، فإذا كان الشهيد في سبيل الله، لا يُغفر له الدين، فمن باب أولى ألا يُغفر لشهيد الغرق ديونه، وهو أقل درجة من الشهيد في سبيل الله، وفي هذا تحذير شديد من خطورة أمر الدين على المسلم في الآخرة. 

لقد جعل الله سبحانه الموت بهذه الطريقة المؤلمة إكراماً لصاحبها ولرفعة لمكانته ومنزلته ودرجاته في الآخرة، كما هي موعظة وعبرة لمن يشهد ذلك من الأحياء، فإن من طبيعة الناس والبشر أن لديهم غفلة شديدة عن عالم البرزخ، وحقائق الموت والقدوم على الله سبحانه وتعالى، بالرغم من أننا نرى كلّ يوم ذهاب البشر إلى هذا العالم، الذي لا يستثني أحداً، سواء أكان حاكماً أو سلطاناً أو عالماً، أو تاجراً، أو رجلاً أو امرأة، أو طفلاً أو شيخاً، أو فقيراً أو غنيّاً… إلخ، فقد قال الله سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، فقد كتب الله تعالى على البشر كلهم الفناء، والانتقال إلى عالم البرزخ، فكلّ من على هذه الأرض ستنتهي حياته الأولى، ثم ينتقل إلى حياة ما بين موته ويوم الحساب، وهذه الحياة تسمى عالم البرزخ، أو حياة القبور، أو عتبة الآخرة، فالحياة لا تنتهي بموتنا، بل تبتدئ بحياة جديدة، فالله تعالى خلق بني البشر للخلود والبقاء، لا للفناء، وينتقلون من دار إلى دار، كما نقلوا من أصلاب آبائهم، إلى أرحام أمهاتهم، ومن أرحام الأمهات إلى الحياة الدنيا، ومن الحياة الدنيا إلى حياة القبور، ومنها إلى الموقف الأكبر يوم القيامة، ثم إلى الخلود في الجنة، أو الخلود في النار.

رحم الله من مات وقضى في سيول درنة الحبيبة، وأنالهم منازل الشهداء، وألهم أهلهم الصبر والسلوان، والرضا والتسليم لقضاء الله، فإنه نعم من سُئل وخير من أعطى.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي الصلابي
داعية ومؤرخ إسلامي
داعية ومؤرخ إسلامي متخصص في قضايا الفكر السياسي والتاريخ الإسلامي
تحميل المزيد