كيف تُعيد المسلسلات تشكيل عقولنا وصناعة وعينا؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/19 الساعة 16:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/19 الساعة 16:43 بتوقيت غرينتش

المسلسلات التّلفزيونية (Television Series) هي أعمال فنّية تدور أحداثها في عدّة أجزاء ذات مُدَد زمنيّة متساوية،عموماً، تُسمَّى (الحلقات). وقد يكون الارتباط بين هذه الحلقات هو القصّة أو الشّخصيات أو الموضوع. ويتميّز المسلسل عن الفيلم بأنه عمل فنّي مُفْرد ومتكامل. ولقد استطاعت المسلسلات التّلفزيونية أن تفرض وجودها على المشاهدين، وأن يكون لها التّأثير الكبير على أفكارهم وعاداتهم وطباعهم.

وقد صدر في أوت سنة 2021 كتاب يتناول ظاهرة المسلسلات التّلفزيونية وانتشارها مع الإشارة إلى جملة من تأثيراتها المختلفة. وعنوان هذا الكتاب له دلالته وهو: (السّحر الخفيّ للمسلسلات) Charme discret des séries Le لصاحبته Virginie Martin فيرجيني مارتن. وقد تناولت الكاتبة، في هذه الدّراسة، ذلك السّحر الخفيّ الذي تمارسه علينا المسلسلات كما قامت بتفكيك الآليات المختلفة، والأساليب التي تجعل هذه المسلسلات تؤثّر في تفكيرنا، وفي يوميّاتنا فنُدْمن عليها ونستسلم لها في سهولة ويُسْر. ولم يَفُت الكاتبة، أيضاً، أن تُحيطنا علماً بالجانب الآخر للمسلسلات والمتعلّق بكتّاب السّيناريوهات والتّمويل والقيم المُراد تسويقها والأفكار المقصود نشرها وإذاعتها. وقيمة هذا الكتاب أنه لم يَقف عند المسلسلات الأنجلوساكسونية أو الغربيّة فقط، بل تعدّاها إلى المنتجات البرازيليّة والكوريّة الجنوبيّة واليابانيّة والتّركيّة والهنديّة.

السّحر الخفيّ للمسلسلات

ويمكن القول، ابتداءً، بأنّ للمسلسلات سحراً خفيّاً، وتأثيراً خاصّاً على المشاهدين يختلف عن ذلك التّأثير النّاشئ من الأفلام. وتوضيح ذلك أنّ للمسلسلات قدرة كبيرة على شدّ انتباه المشاهد وامتلاكه امتلاكاً قويّاً وشلّ تفكيره والتّحكم في إرادته ووَعيه وتحويله إلى مشاهد مُدمن لا يجد لذّته ونَشوته إلّا في استهلاك المزيد من المسلسلات بنَهَم ودون قَيد. ولهذا السّبب أصبحت تحظى بنصيب كبير من الإنتاج التّلفزي والسّينمائيّ في كلّ الدّول. ولم تتخلّف منصّات التّدفق والبثّ المباشر المُهَيمنة مثل… Netflix, Disney+, Prime video عن الاهتمام بهذا النّوع من الإنتاج لأنه أصبح سلعة رائجة يمكن من خلالها نشر بل فرض الأذواق والألوان، وتفسير الحوادث والظّواهر، وإعادة صياغة العقول وَفق النّظرة الأمريكيّة والغربيّة للكون والعالم.

كيف تتحكّم المسلسلات في العواطف والعقول؟

واللاّفت للانتباه في المسلسلات أنّها تستطيع اختراق وَعي جموع المشاهدين، والتّأثير في عقلهم الباطن ثمّ إعادة تشكيله، وصياغته بصورة عجيبة وبأسلوب فريد لا تستطيعه الأفلام ولا هو في مُكْنَتها. ولتحقيق هذا الغرض تلجأ المسلسلات إلى التّوسل بأساليب كثيرة منها عنصر الإثارة المختلفة، وصناعة الأحداث المتناقضة، والتقلّب السّريع للشّخصيات وتبادل الأدوار، وجَعْل غير الممكن واقعاً مُمكناً بالاعتماد على عنصر المفاجآت التي لا تنتهي، وإعلان السّيطرة الكاملة للعواطف ومنح السّلطة العُليا للغرائز والنّزوات، وغياب الضّمير واختفاء قيم المعقوليّة والمسؤوليّة والمحاسبة…فلا شيء يَهُمّ في النّهاية سوى الظَّفر بالشّيء وحِيازته وتحقيق النّصر والوصول إلى الشّهرة والتّألق والنّجاح بأيّ كيفيّة وبأيّ أسلوب.

الظاهرة البارزة في المسلسلات الغربيّة

وهناك ظاهرة بارزة في معظم المسلسلات الأمريكيّة والغربيّة عموماً، خاصّة تلك التي تبثّها المنصّات المُهَيمنة، وهو سعيها اللّاهث لتصوير الفئات الاجتماعيّة المُهمَّشة والتّعاطف غير البريء مع كلّ الذين يعانون من العقد النّفسيّة، والأزمات الفكريّة والعقد الأخلاقيّة والمصابين بالشّذوذ بأنواعه المختلفة، وتصوير الهويّات الهَجينة من خلال خلط الأنواع والمتحوِّلين جنسيّاً… وتسليط الأضواء على كلّ أولئك وتبريره وتزيينه، والتّعاطف معه وجعله أمراً طبيعيّاً وعاديّاً ومتقبَّلاً. وحجّة القائمين على هذه المسلسلات أو المروِّجين لها أنّ هذه الظّواهر وهذه السّلوكات إذا لم يَتمّ تصويرُها فهي غير موجودة أو مهمَّشة. وظهورُها وتصويرها في المسلسلات، وفي الإعلام، قد يجعلها حقيقيّة وقد تحظى بنصيب من الواقعيّة والوجود.

هَدْم المعياريّة والموضوعيّة والتّبشير بالواقع الهجين

إنّ هذه المسلسلات التي يزداد الطّلب عليها والافتتان بها ويتضاعف الإدمان عليها، لدى فئات اجتماعيّة واسعة، ليست بريئة تماماً وليست حياديّة أيضاً لأنها تتسلّل إلى عقلنا الباطن في غفلة منّا فتحرّك قناعاتنا، وتغيّر من تصوّراتنا وأفكارنا ومواقفنا دون رفض منّا ودون مقاومة تُذكر.

وقد ثبت من خلال التّجربة والملاحظة أنّ لهذه المسلسلات، خلافاً للأفلام، قدرة هائلة على "ترويض" المشاهد ترويضاً خاصّاً، وجَعله مشاهداً مدمناً ومَهووساً بَليد الحسّ مشلول التّفكير فتتحكّم، حينئذ، في وقته وفي أعصابه تحكّماً حقيقيّاً، وتصنع مزاجه واهتماماته، وتصوغ أفكاره المختلفة عن الحياة والمجتمع والكون والعالم. 

وهذا السّحر الذي تفرضه هذه المسلسلات على المشاهدين يُمكِّنها من التّأثير على رؤيتهم للعالم والحياة حين تُعيد صياغة أفكارهم القَبْليّة عن السّعي والعمل، والسّعادة والنّجاح، والحياة والموت، والمتعة والجنس، والتّكسب والمال، والطّهارة والعفاف، والتّدين والتّحلل، والألوان والأذواق، والتّعرّي واللّباس، والعلاقات العائليّة والمواضعات الاجتماعيّة، وقضايا الثّقافة والسّياسة والاقتصاد…كلّ أولئك يدخل في اهتمامات هذه المسلسلات ابتداءً من كتابة السّيناريوهات إلى مرحلة الإنجاز والإخراج. وبسبب هذا السّحر الخفيّ وبسبب هذه الجاذبيّة الكبيرة أصبحت المسلسلات جزءاً من القوّة النّاعمة ذات التّأثير الخفيّ الواسع المضمون على المَدَيَين المتوسّط والبعيد.

وخلاصة ما يمكن إثباته، في هذا المقام، أنّ الذي يستهدفه هذا النّوع من المسلسلات هو هَدْم المعياريّة وهَدْم الموضوعيّة في حياة النّاس، وتَهيئة المجتمعات نفسيّاً وفكريّاً لقبول هذا "الواقع الهَجين" بعيداً عن المعايير الإنسانيّة الخالدة والأُطر الاجتماعيّة المعروفة والحسّ المشترك، وتسهيل انتقال النّاس إلى ذلك "المستقبل الهَجين" الذي يصبح فيه كلّ شيء هجيناً وقابلاً للتّحول وغيرَ ثابت ومفروضاً ومتقبَّلاً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

دلاوي نصر الدّين
أستاذ جزائري
أستاذ جزائري
تحميل المزيد