لو استيقظت يوماً في مدينة كالتي نعيش فيها هل ستجد أنه من المتاح لك التصرف بحرية كاملة، بحيث يمكنك عدم الذهاب إلى العمل؛ لذا لست مضطراً لمقابلة مديرك وتحمّل نكاته السخيفة التي لا يكف عن إلقائها على أسماعك، أو بإمكانك مثلاً أن تتجاهل دراسة التخصص الصعب الذي أوقعك فيه سوء تقديرك وأحلامك الوردية، وتهتم في المقابل بمجال فني تحبه، غالباً وبمناسبة أن الاحتمال الأكبر أن تكون من أبناء الطبقة المتوسطة أو أدنى من ذلك، فإنك لن تظل طويلاً في حلم اليقظة الممتع ذاك، فبطاقتك المصرفية الفارغة العاجزة عن توفير أي من حاجاتك سترد عليك، المال هو كل شيء خاصة في المدن التي نعيش فيها، المال يشكل مجرى حياة أغلبنا، ولا وجود لتلك الترهات التي يتفوه بها من يريدون تهميش المال لصالح أشياء أخرى، لكن مهلاً وبعدما اقتنعنا بتلك الحقيقة إن جاز لنا تسميتها بذلك، كيف نفكر في المال وكيف نفهمه، وكيف نراوغ من قبضته على حياتنا؟ هذه هي الفكرة التي سنسترشد فيها بالمساحة المتصلة بين علمي الاجتماع والاقتصاد، وفي الوقت ذاته سنحاول اكتشاف الحلول الممكنة لمعضلة المال التي تواجهنا جميعاً، وبالطبع هذا ليس وعداً على غرار الوعود التي تقدمها كتب "كيف تكون مليونيراً؟"؛ بل محاولة للفهم.
تطورت النظرة إلى المال في العصر الحديث عبر مراحل عدة، كان ما تملكه الأمم من مال هو ثروتها التي تستند إليها، لذا قامت بريطانيا في القرن الثامن عشر بإيعاز من ذلك المعتقد بفرض قيود على حركة الصادرات والواردات مع تحكم كامل في الأسواق كي تحافظ على ثروتها، كان ذلك حتى تأمل مفوض جمركي يعمل في ميناء جلاسكو أحوال النظام التجاري عن قرب بسبب طبيعة عمله، وبذهن متقد شاهد آدم سميث، الذي سيغير مفهوم العالم عن الثروة، عن قرب ما تفعله القيود في حركة التجارة، وما تضيعه سياسات الحكومة المتدخلة في الاقتصاد من فرص للازدهار والنمو.
أدرك سميث التأثيرات السلبية التي تتركها الجمارك والضرائب وسياسات تحديد السعر وغيرها على التجارة، فالفكرة التي كانت سائدة وقتها هي "المركنتيلية" أو الاتجارية السياسية التي ترى أن ثروة الأمة هي مقدار ما تمتلكه من مال، ولكي تصبح ثروتها أعلى يجب أن تبيع أكبر قدر مما تمتلكه وتشتري أقل قدر ممكن مما تحتاجه من الآخرين، أدى ذلك إلى حزمة من القيود على حركة الاستيراد والضرائب وإعانات التصدير وغيرها، فجاء سميث وتبلورت عنده أفكار وحجج ضد تلك الطريقة في إدارة الاقتصاد، لقد رأى بوضوح أن ثروة الأمم ليست فيما تمتلكه من ذهب وفضة؛ بل فيما تنتجه من خدمات وسلع فيما يعرف بالناتج المحلي الإجمالي، لذا إذا كانت أمة ما تسعى لتنمية ثروتها فإن ما عليها هو تهيئة الظروف المناسبة لنمو الإنتاج ورواج السلع والخدمات، ووفقاً لسميث، فإن هذا لن يتم إلا عبر تحرير التجارة من القيود المفروضة.
حسناً في حالة الفرد، أنا وأنت هناك خبر سعيد من السيد سميث، لن تظل الأموال مكانها، ويبقى الغني غنياً والفقير فقيراً، هناك أمل ترعرع لكل من يريد انتشال نفسه من الفقر عبر تقديم ما يمكنه من سلع وخدمات ضمن تبادل سوقي حر، هنا أخذ المال يتجه نحو التواضع والتنازل عن الحكم منفرداً في حياة الأمة والفرد، وهذه المرة تنازل لصالح السلع والخدمات التي نمت الاستفادة منها عالمياً بالفعل.
لكن وبعد مرور بضعة عقود على خطوة السيد سميث المشكورة، ظهر الوجه الشرير للنظام التجاري الذي أطلقه، ورجع المال حاكماً من خلال الاحتكارات والتحالفات الاقتصادية العابرة للحدود، وأصبح مقدمو السلع والخدمات رهينة نظام رأسمالي محكم، هذا لا يعني أن نظرية السيد سميث كانت خاطئة بالكلية، بل كانت تحتاج إلى حماية للوضع الذي أصبح المال فيه متواضعاً بحيث يقبل بالسلع والخدمات وحرية التبادل إلى جواره. وكيف نحمي وضعاً كهذا بحيث يصبح المال ممكناً للجميع الحصول عليه بما يقدمونه من سلع وخدمات مع تمكين الجميع من إنتاج سلعهم وتقديم خدماتهم؟
هنا يتضح قصور نظرية السيد سميث، فهي بناء اقتصادي جيد ومتين يعمل في فضاء اجتماعي معقد دون هدى، لذا ستنجح اقتصادياً لكنها لن تتعزز حضوراً في المجتمع، فسيبقى أغلب الأفراد يعانون من قلة الموارد وانعدام الفرص في الحصول على الحرية المالية، لماذا؟ لأن هناك نوعاً آخر من رأس المال يعمل في الخلفية هو رأس المال الاجتماعي؛ حيث يمكن للأثرياء والأقوياء عبر استخدامه الحفاظ على مزايا طبقتهم وتوريثها، وحيث يمكن لهم تمكين طبقتهم من الوصول إلى موارد ومهارات الإنتاج وتقنياته بشكل أقوى، هكذا يفيدنا عالم الاجتماع الفرنسي الشهير، بيير بورديو، هذا شيء محبط بالطبع، ورغم ذلك نشكر السيد بورديو عليه؛ لكونه بصرنا بمعضلة مهمة قد تفسر لنا لماذا يزداد الفقراء فقراً في عالمنا.
فكرة جديرة بالاهتمام تلك التي تسمى "رأس المال الاجتماعي"، عبقرية وآسرة، لكن ما هو ذاك المسؤول عمّا يعانيه البشر من إعادة إنتاج الفروق الطبقية والفقر؟
لحسن الحظ، نحن نعتبر أن نظرة السيد بورديو لرأس المال الاجتماعي متشائمة رغم كونه من أبرز المتعاطين للمفهوم، في مقابل نظرة رصينة متفائلة لعالم وأستاذ السياسة الأمريكي، روبرت بوتنام، إذ يرى أن رأس المال الاجتماعي الذي يعرفه بأنه الروابط بين الأفراد والشبكات الاجتماعية والثقة المتبادلة والتواصل الذي يخلق الأفكار كفيل بتحقيق فرص عادلة للأفراد للوصول إلى موارده والاستفادة منه في علاقة طردية تساهم في نمو دخل الأفراد وتعزز مواقعهم مع نمو رأس مال المجتمع.
نلتقط طرف خيط من السيد بوتنام لنقول إنه وبرغم أن المستحوذين على المال يعيدون تشكيل دائرة الإنتاج ومسار المجتمع ليبقى الأغلبية في معضلة العوز، إلا أن هناك فرصة للفرد بأن يعبر هذه المعوقات من خلال فهم آلية عمل رأس المال الاجتماعي في مجتمعه، وإدارة علاقاته وتواصله بما يعزز موقعه في ذلك الفضاء، مع تعزيز الثقة بينه وبين أفراده، وفرصة للمجتمع في أن يستثمر علاقات أفراده وجسور الثقة بينهم لتكوين ثروة معرفية واجتماعية ومادية تخرجه من العوز.
نخلص إلى أنه لا يمكن التفكير في معضلة المال فردياً، وأنه لا بد أن ينخرط المرء في منظومة علاقات خلاقة تعززها الثقة؛ كي يحصل على ما هو أهم من المال، وهو حصته من رأس المال الاجتماعي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.