من المتفق عليه في التعريفات اللغوية للتطبيع أنه يشير إلى جعل العلاقة عادية وفقاً للمعاني الجامعة للكلمة. يُعرِّف قاموس أكسفورد التطبيع/Normalization بأنه عملية جعل الشيء مناسباً للظروف وأنماط الفعل الطبيعية. وفي سياق العلاقات العربية الإسرائيلية، يمكن أن يتفق معي البعض على أن التطبيع ليس ظاهرة جديدة فجأة ظهرت على السطح والحياة الدبلوماسية، بل يشير إلى عملية معقدة ومنظمة، لها عناصرها ونسقها ومستويات تأثيرها وفقاً لجدول زمني متسلسل.
ويتم تنظيمه وتطويره مع مراعاة بعض الاستثناءات، تبعاً لطبيعة المرحلة ومتطلباتها. على سبيل المثال، في فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق ترامب ورئيس حكومة إسرائيل نتنياهو، شهدنا تفاعلاً وتكاملاً وثيقين بين الإسرائيليين والشعب الأمريكي في سياق الحملة الانتخابية. وقد دفعوا بتسريع جدول التطبيع، حيث اعتبروا عامل الوقت مهماً لتكييف الأوضاع والمستجدات الجديدة.
لماذا لا يجب على العالم التطبيع مع إسرائيل؟
1 – نشأة الكيان الإسرائيلي المحتل: الذي بُني على قرار الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة لعام 1947 والذي جاء بعد انتهاء الانتداب البريطاني للدولة الفلسطينية والذي تضمن تقسيم الأرض الفلسطينية إلى منطقتين، ثم تلاه في عام 1948 قيام دولة الكيان الإسرائيلي المحتل من قبل تنظيمات إسرائيلية، هذه الطريقة في النشأة والتكوين تأتي مخالفة تماماً للنشأة الطبيعية للدول، فمن المتعارف عليه أن الدولة تنشأ بوجود شعب منسجم، وله روابط متعددة، شعب أصيل ينشئ حكومة ودولة ونظاماً، وليس شعباً لقيطاً تم تجميعه من أوطان عدة بهدف استغلال أراضي وتاريخ الغير.
وهذا ما نجده في الحالة الحالة الإسرائيلية، حيث تختلف نشأة دولة الاحتلال تماماً عن الأعراف الدولية، فتنقلب المعايير والضوابط الدستورية التأسيسية المعمول بها، فنجد الاحتلال الإسرائيلي هو من يجلب المستوطنين تباعاً وعبر عقود من الزمن من مناطق عديدة من العالم وجنسيات مختلفة، يكون الرابط المشترك الوحيد بينهم هو الديانة اليهودية والأطروحات التاريخية المزيفة كمعتقد محفز للهجرة نحو الدولة والأرض الموعودة.
بالإضافة لذلك، لم تشهد حدود الدولة الإسرائيلية المزعومة استقراراً ولا وضوحاً إلى اليوم، رغم وجود قرارات للأمم المتحدة، تبين الحدود والمعالم الفاصلة بين الدولة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ منذ نشأتها لا تأبه ولا تحترم أي مواثيق ولا قرارات دولية، فنراها تستمر في ممارساتها التوسعية والاستيطان على الأراضي الفلسطينية، مما يجعل وجودها من الأساس من حيث التكوين والتأسيس يبعث بالقلق وعدم الاستقرار، ليس على المنطقة فقط بل على النظام العالمي بأكمله.
2– تواجد تناقض للكيان الإسرائيلي في المنطقة، فبينما تحاول دولة الاحتلال الإسرائيلي أن تعتبر نفسها جزءاً لا يتجزأ من الغرب وثقافته، نحاول أن تعزز تواجده في الشرق وفي منطقة العرب والمسلمين تحديداً، والتي تختلف تماماً عن انتمائه الغربي، فنجد هوية مصنعة ومشوهة غريبة عن المنطقة وإرثها الثقافي والاجتماعي.
3- تعمل دولة الاحتلال على التطبيع مع الأنظمة العربية التي تقمع شعبها، فرغم زعمها أنها بؤرة الديمقراطية، تعمل على دعم وتقوية الأنظمة الاستبدادية على قمع الشعوب العربية، فعن أي سلام تتحدث؟ فهي تراهن على الأنظمة كخيار استراتيجي للتطبيع والاندماج في المنطقة، وهو خيار ناقص بالطبع، إذ يبقى على السطح دون تعمق إلى الشعوب الرافضة لأي علاقة مع هذا الكيان الإسرائيلي.
وقد رأينا خلال موجة الربيع العربي في عام 2011 وتحول المنطقة نحو تغيرات بنيوية وبروز مطالب تأسيسية تتضمن الحرية والديمقراطية، الأمر الذي جعل التهديد الوجودي الإسرائيلي على التماس من حركة الشعوب العربية الرامية إلى بناء دول قوية.
إن إمكانية ظهور حكومات ديمقراطية تعمل على إصلاح منظومتها الوطنية وتقوية أركان الدولة أمر وارد في أي لحظة من الزمن، وبذلك يشكل تهديداً محتملاً للوجود الإسرائيلي ما دامت الشعوب العربية تنظر بنظرة عدائية للكيان الإسرائيلي المتواجد في منطقتها، ولنا شواهد في ذلك كيف ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في الانقلاب على حكومة شرعية منتخبة ودعمت كل مساعي الثورات المضادة وعززت المواقف لدى البيت الأبيض الأمريكي والاتحاد الأوروبي.
4 – دولة طفيلية بالمعني الحرفي، إذ يعتمد وجودها وعلاقتها بشكل أساسي على رعاية القوة العالمية سواء في نشأتها واستمرار وجودها. فالمملكة البريطانية حينما كانت تتميز بالقوة سمحت لها بالعمل وتوطينها على الأراضي الفلسطينية، حتى قبل الإعلان، أي في فترة الانتداب، وحينما تغير مركز القوة وظهرت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة دولية اتجهت نحوها، وهذا لا يخفى على أحد في العالم، إذ نلاحظ أن كل اتفاقات السلام العربية تكون بحضور الطرف الأمريكي الضامن لها.
وربما سمة الطفيلية لهذه الدولة هي من ضمن عوامل عدم استقرارها الحالي في ظل التغيرات الحاصلة في النظام العالمي. حيث نرى اليوم بروز قوى دولية أخرى تتمدد في المنطقة، منها روسيا، وتركيا، وإيران، والصين، مما يربك ويهدد وجودها، ولعل لذلك نرى دولة الاحتلال تلهث وراء التطبيع بشكل أعمق مع الدول العربية لصد هذا الخطر المحتمل والحيلولة دون ظهور تحالفات دولية إقليمية تهددها مستقبلاً.
لماذا تحاول إسرائيل اليوم التطبيع مع الدول العربية بشكل أعمق؟
إن العالم العربي والإسلامي اليوم في قلب الصراعات الدولية والإقليمية، وأدركت إسرائيل أن التطبيع على مستوى الأنظمة لن يجدي مع هذه الأنظمة، إذ إن هذه الدول بعكس نشأتها شعب ثم دولة، فرغم سيطرة هذه الأنظمة على الحياة السياسية في البلاد العربية، إلا أنها تعجز عن تغيير هويتها ومكوناتها الاجتماعية القائمة في الأساس على نبذ الاحتلال ومعادته، لذلك ستظل الدول العربية رغم تطبيعها على مستوى الأنظمة المصدر الرئيسي لتهديد الوجود الإسرائيلي.
لذلك نجد أن إسرائيل خلال اتفاقيات أبراهام حرصت على وضع بنود تعمل على استهداف الوعي الشعبي العربي ونقل صورتها وتخيلاتها لكيانها المزعوم، سواء عن طريق الترابط العلمي والمعرفي، أو التبادل الاقتصادي والتجاري، كما أنها تعمل على إنشاء منتدى مشترك عالي المستوى يعنى بالهوية والثقافة.
إسرائيل ككيان استيطاني محتل يدرك أنه لا ضمان لاستمرار تواجده إلا عن طريق التطبيع، لذلك يستهدف الشعوب العربية. لكن، تختلف السيطرة على المجتمعات عن السيطرة على الدولة، فبينما تحكم الأنظمة مؤسسات الدولة عن طريق القوة والمصالح، لا يمكن أن تسيطر على وعي شعوبها، بهذه الطريقة، فالمجتمعات لديها أدوات متعددة للتحكم في مجريات شؤونها. هذه الأدوات تشمل الثقافة التي تشكل الإطار العام الذي يحدد المضمون الفكري والسمات المجتمعية، وهي قائمة بالأساس في البلاد العربية على رفض وجود إسرائيل.
وهنا يأتي دور المثقفين ومسؤوليتهم في تغذية هذه الهوية والوعي الرافض لدول الاحتلال، وتوجيه الرأي العام وتنبيه لمحاولات التطبيع، وذلك يحتاج إلى نوع معين من المثقفين يسميه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، "المثقف العضوي"؛ حيث يقسم المثقفين وفقاً لرؤيته إلى قسمين: مثقف تقليدي ومثقف عضوي، فبينما يظل المثقف العضوي خاملاً أو محابياً للسلطة أو حيادياً، يأتي المثقف العضوي كي لا يقف على حياد سلبي، بل يسعى للهيمنة الثقافية، فيأخذ على مسؤوليته التغيير والدفاع عن حقوق طبقات المجتمع والتصدي للاعتداء عليها، ويشعر بمتطلبات المجتمع وقضاياه ويتبنى موقفاً تجاهها، فهو منحاز لشعب ويعيش آلامها وقضاياها.
لذلك هذا النوع من المثقفين هو الذي يشكل خطراً على مشروع التطبيع، فهو تهديد قائم ومستمر، إذ يسعى دائماً إلى انتزاع تربية الجماهير من أيدي السلطة. للمساعدة على خلق مجتمع ودولة قادرة على التفاعل والتضامن مع مواطنيها وحقوقهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.