كانت الأمطار تهطل باستمرار في تلك الليلة عندما اجتمعت إحدى العائلات المقيمة بقاع الوادي، الذي يشق مدينة درنة إلى ضفتين منحدرتين باتجاه شاطئ البحر، اجتمعت تلك العائلة مساء على عادتها من أجل تناول وجبة العشاء وتبادل أطراف الحوار والمسامرة.
داعب الأب والأم أبناءهما وبناتهما وتمنيا لهم أحلاماً سعيداً عندما أغلقوا عليهم أبواب ديار النوم، غير مدركين أن تلك اللحظة كانت الليلة الأخيرة التي ستجلس فيها هذه العائلة حول طاولة العشاء معاً، فما هي إلا ساعات حتى تغيرت خارطة ومعالم ذلك المنزل وكل من جاوره بالوادي القاطنين به بشكل نهائي.
تسارع منسوب هطول الأمطار بشكل لم يسبق له مثيل، فإعصار دانيال الذي سبب العديد من الكوارث البيئية بحوض البحر الأبيض المتوسط صار يقترب شيئاً فشيئاً من مدينة درنة كالوحش المفترس في ظلام الليل الحالك، تهاطل منسوب المياه خلال ساعات لتصل معدلات لم تعتد عليها مدينة درنة، فما هي إلا ساعات بعد منتصف الليل حتى حدث ما لم يكن في الحسبان.
انهار السد الأول، الواقع بالوادي على وقع ضغط منسوب المياه، وتدفقت كالسيل العرم بشكل متسارع وبارتفاع مهيب يصل لعشرات الأمتار، لتغمر كل ما كان بطريقها، استفاقت تلك العائلة وقد غمرها الهول من وجود الماء بداخل المنزل الذي لم يلبث أن ينهار بأكمله تحت وطأة قوة المياه الجارفة ليجد كل من يقطن الوادي أنفسهم منصاعين لعنفوان التيار، فحيناً يرمي بهم يميناً وحيناً آخر يقذفهم شمالاً.
تحطمت الأجساد البشرية عند اصطدامها بالصخور والمنازل، وكل ما شاء القدر أن ينجرف تحت وقع الفيضان، غرق البعض الآخر من عمق المياه وهول المشهد، وما هي إلا لحظات حتى انهار السد الثاني الموجود بالوادي؛ ليكتمل مشهد الموت المقيت بصورة لم يسبق لها مثيل بذاكرة الليبيين.
عمَّ الفزع والهول أحياء المدينة النائمة المزدحمة بالسكان، وانتفض أهلها غير مدركين حجم الكارثة، زاد منسوب المياه بسبب استمرار هطول الأمطار المتواصل وتسارع تدفقه وهو يهوي على وسط البلاد حاصداً الآلاف من الأرواح البشرية، ومدمراً المنازل والمقتنيات.
تسارعت الأخبار وانتشرت مقاطع الصور والفيديوهات صباح الليلة المأساوية لترسل مدينة درنة صرخة مؤلمة وموجعة إلى جميع أقصاء العالم، صرخة غريق يحتضر ومصاب ومنكوب يهتز صدره بالعويل والبكاء والاحتساب، فهم يدركون أنها أقدار والإيمان بالقضاء والقدر فيه سكينة وسلام يحتاجها الإنسان ليعبر على أقدام مرتجفة ذلك النفق المظلم، نفق فقدان الأهل والأحباب وتقبل التعايش مع الحياة من بعد رحليهم.
حتى لحظة كتابة هذه المقالة لم يتم حصر الإحصائيات الأخيرة، فهي في تزايد مخيف أعجز أن أترك لمخيلتي العنان للتفكير بها، فالباحثون تحت الأنقاض لا يزالون ينتشلون جثث الموتى من تحت الصخور والمنازل المهدومة وركام التراب المسدل من الوادي، بل إن الأمواج بدأت ترمي الجثث إلي شاطئي المدينة بعد ان ابتلعتها من خلال انجراف الوادي عبر شوارع المدينة المنكوبة.
ما حدث في درنة سيبقي محفوراً في ذاكرة الليبيين، فها هي إحدى أجمل مدن الشرق الليبي المطلة علي البحر الأبيض المتوسط تعيش أياماً ستغير من خريطتها الجغرافية إلى الأبد وتضيفها إلى مكتبة التاريخ، تاريخ حوض المتوسط الذي قد يضم في ثناياه رفات حضارة الأطلانطس كما كتب عنها الفيلسوف اليوناني أفلاطون، الذي سكن غير بعيد من سواحل درنة، فكأني بأشباح تلك الحضارة الغارقة تشاهد قدوم الجثث المتدفقة من المدينة إلي البحر وحالها حال من عاش الغرقان بأبشع صوره.
على الرغم من المحنة، وعلى النقيض من المناخ السياسي، فإن ما يحدث من تكاثف الجهود وتسارع المواطنين من جميع بقاع ليبيا لمساعدة المنكوبين بدرنة ضاربين عرض الحائط بكل أطياف التشتت السياسي يقف شاهداً على رابطة الأخوة التي تجمع كل الليبيين خلف ستار الإعلام، تلك الرابطة التي يرى العديد من المتابعين بالخارج أنها قد اندثرت، ولم يعد لها أثر، بينما يخبرنا واقع هذه المأساة بأنها لا تزال ساكنة بقلوب الليبيين، ولكنها كحال أي رابطة اجتماعية أخري بحاجة للرأفة والاهتمام، بحاجة للطف بها ومحاورتها وصقلها، بحاجة للراحة والاستقرار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.