في ذروة تفشي فيروس كورونا اللعين وما ألحقه بالعالم من خسائر فادحة لا تعوض، أتذكر أنني كتبت مقالاً حول كيف تغيرت الأولويات وحتم علينا الوباء أن نعود أدراجنا ونرتب أولوياتنا ونركل كل السخافات والتفاهات التي لا نستفيد منها شيئاً، بل نعيدها لحجمها الطبيعي الذي تستحقه ونضع العلم والعلماء في المصاف التي يجدر بهم تبوّؤها، واستعرضنا بعض النماذج الأوروبية التي احتلت الفضاء والهواء، بعد أن صار الناس تواقين للتدقيق وسماع الآراء العلمية المستندة على أسس متينة صلبة قصد تجاوز تلك المحنة العصيبة.
وكما يقول المثل: "قد يأتي الخير من باطن الشر"، فقد أنصف كورونا أسماء علمية مرموقة وأعاد لها الاعتبار، مثل العجوز الإيطالي "ماسيمو غالي" واليوناني "سوتيريوس تسيودراس" والألماني "كريستيان دروستين" والأمريكي "أنثوني فوسي" والإسباني "فرناندو سيمون" والبريطاني "نيل فيرغسون"؛ دون إغفال الفرنسي المهمش "ديديه راؤول" وغيرهم الكثير ممن استنجدت بهم وسائل الإعلام، واكتشفهم المواطنون العاديون وصاروا يمتثلون لكل ما يصدر منهم، مستسلمين لحقيقة واحدة مفادها سطوة العلم والعلماء.
سيتساءل البعض منكم عن مناسبة استحضار هذه الأسماء، والعالم بالكاد يلتقط أنفاسه جراء ما سببه الوباء الفتاك؛ لكن ما أرغمني على النبش في هذه السيرة تحديداً هي الكوارث التي حلت بالمغرب هذه الأيام وفاجعة الزلزال التي أودت بحياة الآلاف من أبنائه، وبعد ساعات وجيزة نستفيق على صدمة مماثلة هزت الشقيقة ليبيا، وكيف عاث فيها "إعصار دانيال" خراباً وأتى على الأخضر واليابس.
المنطقي في ظل ما يصاحب هذه المآسي من صدمات نفسية وهلع وخوف هو أن تعمد وسائل الإعلام للتوجيه والإرشاد والنصح من خلال استضافة خبراء وأطباء مختصين؛ لكن ما نعاينه حالياً في العديد من المنابر العربية هو "تفشي" مستفز لشخصيات سطحية تصر على "تأجيج" مخاوف الناس عبر نشر مقاطع فيديو لدجالين صاروا من "النخبة"، وتفتح أمامهم استوديوهات مجهزة وبرامج تأتمر بأوامرهم ومحطات تلبي الشروط وتقدم مبالغ ضخمة؛ كي تنال الرضا والقبول، ويشملها هؤلاء بعطفهم وحنانهم كي يحتلوا "التريند" ويفتخروا بصدق "تنبؤات" ذاك العراف أو تلك.
لهذا اخترت أن تكون المقدمة بالعودة لتلك الحقبة المظلمة وكيف استبشرنا خيراً بأن سلم الأولويات قد تغير، وأن القاع عاد ليستقبل أهله؛ لكن الكوارث الطبيعية التي حلت ببلادنا عادت لتكشف لنا الحقيقة المرة إياها التي تقول بأن نفوذ التفاهة والتافهين باقٍ ويتمدد بل بالعكس "يقتات" على مآسي الناس ويتاجر بها، لطالما أن العبارة المقيتة نفسها "الجمهور عايز كده" ما زالت تصدر كواجهة في أي نقاش مع مسؤول إعلامي أو ممن يصنفون في عالم اليوم "بالمؤثرين" ومخبولي "التريند".
الكارثي أن من يقودون "كوكبة الجهل" هؤلاء وزادهم العشرات من الصفحات الإلكترونية التي تغزو مواقع التواصل الاجتماعي "استبدوا" بالناس من خلال المئات من الإعلانات والأخبار التي تنهال على هواتفهم في كل دقيقة وتحمل أخباراً صادمة ومخيفة معززة "بأدلة" يصدقها البعض مع كامل الأسف، ويبدون مستعدين لاستعراض أمثلة تدل على "صدق" توقعات هؤلاء "الغربان" ممن لا ينذرون سوى بالشؤم ولا يحملون سوى أنباء السوء والكوارث.
وتكفي جولة صغيرة اليوم في الشارع بالمغرب بعد الزلزال، وأيضاً بالعديد من البلاد العربية؛ كي يتوقف المرء ملياً عند حجم ما تخلفه هذه الأخبار وأسماء شخصيات بعينها من رعب في نفوس المواطنين، وهنا لا بدَّ أن نعود للنقطة ذاتها حول هذا الشرخ المفزع الذي نراه والاختلال الفظيع في سُلم الأولويات بين أولئك المفترض أن ينصت إليهم الناس، ويطمئن لواقعية آرائهم، وبين استبداد العرافين والدجالين بالسوشيال ميديا والقنوات التلفزيونية، وصار صوتهم هو "الأقوى"، والغلبة لهم بفارق مشين عن قافلة العلماء وحاملي لواء العلم.
صدقاً: أي عصر هذا الذي نعيشه حتى اختلت الموازين بهذه الطريقة الفظيعة؟ ومتى سيدرك المخبولون هؤلاء أنه لا يصح إلا الصحيح، وبالتالي يعودون لرشدهم وينعتقون من أسر سخافة السوشيال ميديا التي تستبيح حياتهم؟
حقاً كما قال الشاعر الكبير محمد الماغوط يوماً: "لا تكن قمة.. فهذا زمن الحضيض"..
وزمن العرافين والدجالين أيضاً..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.