الرزق ربما لأنه من القضايا التي تشغل بال كل إنسان يدب على وجه هذه الأرض، وهو حديث الناس المتواصل، جاءت الآية الكريمة على هذا النحو من البناء والتركيب: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)، [الذاريات: 23].
ربما يراها غير العارفين باللغة العربية وقواعدها آية عادية، لكن المحبين لها والقريبين منها تتملكهم دهشة عجيبة من كمّ القسم الوارد!
فبعدما أقسم الله في صدر السورة ابتداءً بـ(الذاريات) و(الحاملات) و(الجاريات) و(المقسمات)، والأولى تعني الرياح التي تذرو وتفرّق التراب، والثانية تعني السُّحب التي تحمل المطر حملاً، والثالثة تعني السفن التي تجري على الماء جرياً سهلاً، والرابعة تعني الملائكة الموكلة بتقسيم المقدرات التي وهبها الله لمخلوقاته، يأتي التأكيد بخالق السماء والأرض (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) دون العوض عنهما بضمير؛ لإدخال المهابة في نفوس السامعين بعظمة ربنا جل في علاه، ثم يأتي حرف التوكيد (إنّ) لمزيد من التأكيد، ثم تتبعه اللام في قوله (لَحَق) لتعزيز هذا التأكيد.
ثم جاءت الميم ملتصقةً بـ(مثل) زائدة، والغرض من الزيادة هنا التوكيد، ثم أردفت بــ(أن) التي تأتي للتوكيد أيضاً، وجاء الفعل المضارع (تنطقون) دون المصدر أو الماضي، ليفيد التشبيه بالنطق المتجدد، وهو أقوى لأنه مستمر محسوس.
لم تنته التوكيدات في الآية عند هذا الحد، فما زال السياق والبناء يحمل دلالات أكثر عمقاً في مسألة أن الرزق أمر مفروغ منه تماماً.
في هذه الأوقات التي يشهد فيها سوق العمل في كثير من البلدان انكماشاً وتقلصاً للوظائف، ربما يجنح البعض لا شعورياً إلى إذلال نفسه لرب العمل، متصوراً أنه بهذا الإذلال سيحافظ على عمله، ولا يدري المسكين أنه أخطأ ثلاث مرات، مرة لأنه سمح لنفسه بأن يصل إلى هذه المرحلة الخطرة عندما لم يؤهل نفسه جيداً ليحمي نفسه من تقلبات سوق العمل، ويكتسب من المهارات ما يمكنه من المنافسة في هذا العالم السريع، وقنع بشهادة الليسانس أو البكالوريوس فقط.
ومرة لأنه قد غاب عنه (الله) الذي قسّم الأرزاق، وتعهد بها، ومرة لأنه استسلم للثقافة السائدة في مجتمعاتنا وقرر البحث عن الوظيفة، ولم يتأسَّ بالصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، الذي قال لأخيه الصحابي (دلَّني على السوق)، ثم صار واحداً من أغنى أغنياء المدينة.
على كل حالٍ، إذا كنت من أمثالي الذين ركنوا إلى الوظيفة فإياك أن تذل نفسك لرب العمل، وتتوهم أنك بذلك تحافظ على رزقك، واتَّخِذ من قول الإمام علي بن أبي طالب دليلاً لك في حياتك: حفر بئرين بإبرتين، ونزح بحرين بغربالين، ونقل بحرين زاخرين بمنخلين، وكنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين، أهون عليّ أن أقف على باب اللئيم فيردني خائباً.
يعلمنا سيدنا علي من خلال هذه الكلمات كيف يكون الإنسان عزيزاً، لا يعرف الذل لنفسِه طريقاً، ولهذا إياك أن تكون ذليلاً لأحد من أجل لقمة العيش، فالمال قد يعوض، إنما الكرامة إن ذهبت لا تعود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.