في كتابه الفذ والفريد "الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم"، يتتبع العالم الياباني توشيهيكو إيزوتسو عن طريق منهج علم دلالة اللغة– بدقة يابانية تفصح عن نفسها في كل سطر– رحلة القرآن مع المسلمين وإعادة تشكيل رؤيتهم للعالم عبر إعادة صياغة علاقة الله بالإنسان، وأعني هنا إعادة الصياغة حرفياً، وليس إنشائياً، لأن مفهوم الله لم يغب عن العالم ولم يغب عن العرب الجاهليين، ولكن ما حدث أن القرآن أعاد له مركزيته ووحدانيته وتفرده.
إن كتاب إيزوتسو بعد قراءته يغير ذائقتك ونظرتك لآيات القرآن، بل آيات الله كلها اللغوية والطبيعية. فنراه يبدأ بتعريف بسيط لعلم الدلالة، ويوضح كيف أن لكل مفردة في اللغة نوعين من المعاني؛ أحدهما أساسي تحمله الكلمة أينما ذهبت، والآخر علائقي ينشأ من السياق (الحقل الدلالي) الذي تستخدم فيه الكلمة، ويمكن أن نمثل لهذا المبدأ بكلمة "ضابط" فمعناها الأساسي "الشخص أو الشيء الذي ينظم الأمور ويضبطها" وهي تحمل المعنى أينما ذهبت، لكن يضاف إليه بعض المعاني الأخرى التي تختلف حسب الحقل الدلالي الذي تستخدم فيه الكلمة مثل أن تستخدم للإشارة إلى شخص يعمل في جهاز الشرطة أو شخص آخر يعمل على ضبط الإيقاع في فرقة موسيقية.
بعد التعريف السريع بعلم الدلالة يبدأ الكاتب في التطبيق على القرآن من خلال المقارنة مع الشعر الجاهلي؛ حيث يوضح أن كلمة "الله" هي الكلمة المركزية المفتاحية التي تشكل الحقل الدلالي المركزي الذي يمنح الدلالة الخاصة لجميع الحقول الفرعية المكونة للمعجم القرآني، بمعنى أن كل كلمة عربية كانت تستخدم قبل نزول القرآن صارت تحمل دلالة جديدة بعد استخدامها في القرآن بداخل حقوله الدلالية المتنوعة التي تتمحور حول (الإيمان – الكفر) أو ( الآخرة – الدنيا) أو (الله – الإنسان) وهكذا.
فعلى سبيل المثال، كلمة "التقوى" التي كانت تعني في الجاهلية "أن تجعل بينك وبين ما تخافه حاجزاً يحفظك"، كلمة دون أي دلالة دينية تُذكر، لكن عندما استخدمت هذه المفردة في القرآن اكتسبت الدلالة الدينية بنفس معنى الدفاع عن الذات أو تجنب العقاب حينما دخلت الحقل الدلالي الخاص بالآخرة عند الحديث عن النار ويوم القيامة، من ثم تطور المعنى لاحقاً لتبتعد كثيراً عن معنى الخوف وتجنب الخطر لتصبح أقرب لمعنى الورع.
وحيث إن اللغة أداة للفكر، استطاع إيزوتسو في نظريته أن يخلص إلى الثورة اللغوية التي أحدثها القرآن، والتي بدورها شكلت رؤية المسلم للعالم وأُنتجت عنها حقول دلالية لاحقة لنزول القرآن.
ولعل أحد أجمل الأمثلة التي ضربها إيزوتسو في الكتاب عن ذلك التغيير الثوري، هو التغيير الدلالي لكلمتي "الجهل" و"كريم".
الجهل والإسلام ضدان متنافران
فنجده إيزوتسو يتحدث عن الجذر (ج ه ل) واستخدامه في القرآن، فيبدأ بتوضيح أن الجاهلية مصطلح ديني ذو معنى سلبي، فهي الأساس الحقيقي الذي يقوم عليه كفر الكافرين، والمنبع لروح الاستقلال المتعجرف الذي يرفض الإذعان لأية سلطة، سواء كانت إنسانية أو إلهية.
بالتعمق في دراسة الشعر الجاهلي يتضح لنا أن مفهوم الجهل مفهوم مميز لحالة نفسية كان عليها العرب القدماء (حمية الجاهلية)، ولهذا المفهوم مكونات 3 نعرضها بإيجاز شديد، ربما قد يكون مخلاً:
أولاً، التهور وسرعة الاهتياج وفقدان السيطرة لأدنى إثارة والانقياد للعاطفة دون التفكير في العواقب، مما يدفع إلى المكون الثاني كنتيجة للأول، وهو قصور العقل أحياناً عن إمكانية امتلاك فهم عميق للأمور، وبالتالي إصدار أحكام طائشة وضحلة حول كل شيء، وأخيراً، المكون الأشهر والأقل أهمية في سياقنا الحالي، نقص المعرفة.
وأما إذا أردنا البحث عن المعنى المضاد لكلمة جهل في لغة العرب قبل القرآن فسنجد أن العرب كانو يستخدمون كلمة "حلم" و "حليم" كمضاد لجهل وجاهل. والحلم هنا يعني الاتزان والروية والأناة وكبت الغضب مع القدرة على إنفاذه.
ينبغي تأكيد أن الجزء الخاص بكبت الغضب والسيطرة على المشاعر هو الجزء الأكثر أهمية في تحليلنا، كما سيتضح فبعد نزول القرآن طرأ على الجهل ومفهومه السلبي وما يشتمل عليه من غطرسة ورفض للخضوع واعتداد مطلق بالنفس تحول جذري، إذ لم يعد موجهاً أفقياً من إنسان لإنسان بل صار رأسياً في العلاقة بين الإنسان والله. فالعرب الوثنيون كانوا يتخذون موقف الجهل ضد الرسول وبالتالي ضد الله، ومن هنا لم يعد الحلم صالحاً كنفي وكضد للجهل، لأنه فقد الجزء الخاص بالامتناع مع القدرة، فإذا طالبتك بالحلم تجاه إخوتك يعني مطالبتك بعدم الجهل عليهم رغم قدرتك، ولكن في حضرة الرب العظيم لم تعد تلك الصيغة (الجهل- الحلم) مقبولة، وأصبح نفي الجهل بالتسليم والخضوع المطلق.
بالتالي لم يعد السلوك المضاد للجهل بعد نزول القرآن والرسالة يعد أو يسمى حلماً بل "إسلام"، لأن الإسلام يعني التسليم والخضوع التام، ومعناها لا يحتوي في أي من دلالته على فكرة كبت الغضب مع القدرة على إنفاذه، والإسلام هنا بهذا المعنى ليس نفياً بسيطاً للحلم بقدر ما يعد استمراراً وتطويراً له.
القرآن والحراك الاجتماعي
أما إذا نظرنا إلى دلالة كلمة "كريم" قبل التأثير القرآني، وهي كلمة محورية جداً في (الجاهلية) وكانت تعني أصالة النسب ونبل المولد. وقد اكتسبت أيضاً لمعنى الرجل الذي يتحلى بالجود المفرط إلى درجة كبيرة، فنجد أن القرآن قد غيّر مضمون الكلمة بدرجة كبيرة عندما ربطها بمفهوم التقوى، فنجد في قوله الكريم (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، [الحجرات – الآية 13].
وهذا الربط الذي لم يكن ليحلم به أحد يعتبر من أهم الأمثلة على تغيير رؤية العرب للكون والحياة، حيث كانت الوجاهة الاجتماعية والكرامة والنبل محصورة فقط في طبقة معينة تتوارثها القبائل، مما يجمد الحراك الاجتماعي، من ثم جاءت هذه النظرة الثورية في المثل الأخلاقية لتمنح الوجاهة والنبل لمن يستحقهما أخلاقياً بغضّ النظر عن نسبه وعائلته. ولعل نظرة سريعة لكبار الصحابة والتابعين تؤكد لنا ذلك.
فأصبح من يستحق أن يدعى كريماً بالمعنى الحقيقي ليس شريف المولد، ولا الذي يواصل تبذير ماله بتهور، إذ أصبحت صفة كريم الجاهلية مذمومة في القرآن، (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)، [الإسراء – الآية 27].
فنرى التغير العميق لمعنى الكلمة في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [سورة البقرة – الآية 264]. إذ قصر صفة الكريم على الإنفاق المحمود من أجل هدف نبيل وليس ابتغاء الكبرياء والمباهاة، بل إنه كلما كان سراً كان أفضل.
بالطبع لا تقف الأمثلة على هذه الكلمات فقط، فإذا تأملنا في القرآن فسنجد كثيراً من الأمثلة والمعاني التي أعادت تشكيل رؤية الإنسان وعلاقته بالعالم وبالكون من حوله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.