من الصعب على كثيرين ممن يلوذون بنا، ويعيشون معنا، ويشاركوننا يومياتنا "تقدير أهمية النواحي المعنوية ورهافة المشاعر الإنسانية"، ربما لأنها مستورة ومخفية، وربما لأنها تتفاوت من شخصية لأخرى… فيجورون، ويقسون بالتعامل، ويستمرون بالإساءة حتى يدمروا بعض الشخصيات، ويؤذوهم أشد الأذى، ويدخلوهم في دوامات الاكتئاب، أو يتسببوا لهم بالعقد النفسية، أو باليأس والحزن والأسى، ما يغير حياتهم، ويسلبهم أمانهم واستقرارهم، ويعطل إنجازهم،
وهكذا وفي كلا الزلزالين الأرضي والنفسي:
تتأثر النفسيات بشكل عميق، ويصيبها الحزن الشديد واليأس والإحباط، وقد يذهب العقل لهول الصدمة، ولحالة الرعب التي عاشتها النفس وهي ترى كل شيء ينهار من حولها، ومن ذلك: خسارة الأقارب، والخسائر المادية، وخسائر الممتلكات والذكريات، والتشرد وفقدان المأوى وسبل العيش وضرورات الحياة، وتعطيل البنية الأساسية الحيوية، والاضطرار للهجرة من المناطق المتضررة إلى مناطق أخرى، ما يدمي القلب، ويثير الحنين، ويؤجج مشاعر الفقد والغربة والضياع وصعوبة التأقلم.
وفي هذا المقال سأتكلم عن الزلزال الجيولوجي الحقيقي، وأقارن بينه وبين الزلزلة النفسية التي نتعرض لها في حياتنا اليومية (بسبب كلمة أو سلوك). وإن في المآسي والكوارث التي خلفها زلزال المغرب وزلزال تركيا من قبله مثالاً حياً، يوضح القضية من قلب الحدث الحي المؤلم، علنا نفهم مَنْ حولنا، فنرفق ببعضنا بعضاً، فإننا إذا كنا لا نملك منع وقوع الزلزال الأرضي فإننا نستطيع تجنب الزلزال النفسي، أو وعلى الأقل نخفف من آثاره. وسأبين ذلك في سبع نقاط:
الأولى: جاء في تعريف الزلزال أنه "اهتزاز مفاجئ وسريع للأرض، بسبب حركة الصفائح التكتونية"، وعندما تحتك حواف الصفائح ببعضها البعض يتم إطلاق الطاقة على شكل موجات زلزالية تعتبر أحد أكثر الكوارث الطبيعية تدميراً (فمثلاً: زلزال واحد قوته حوالي 7 ريختر قتل ربع مليون في مدينة حلب وحدها، عام 1138).
وأما وجه التشابه بين الزلزال الأرضي والزلزال النفسي (من حيث التعريف):
فإنه في داخل كل منا جروح وندوب مخفية، وذكريات قاسية، وآلام ومخاوف كامنة في قلوبنا وفي عقولنا، تتراكم على مدار سنوات عمرنا، وتكون كقنابل موقوتة مزروعة في أعماقنا، وهي متنوعة ومختلفة ومتباينة… وتكون مخفية وغير مرئية لأننا نكبتها ونتجاهلها، ونحاول نسيانها والسيطرة عليها، ولكنها موجودة، وتنمو مع كل موقف سيئ، وتتكاثر من تكرار الأحزان والحرمان، ما يجعل نفسياتنا هشة وغير مستقرة، وغير مرتكزة ولا ثابتة (كتلك الصفائح التكتونية)، وتشكل صدعاً قابلاً للانزلاق بسهولة، وبالتالي كلنا في خطر دائم من كثرة الضغوط، وفي أي ثانية قد نفقد السيطرة، وتتدحرج كل هذه الأحزان وكل ذاك القهر، فتنزلق ويقع بعضها على بعض، فتتزلزل النفس وتنهار، وتكون كارثة حقيقية تدمر الشخصية.
الثانية: يتعرض كوكب الأرض لنحو 20 ألف زلزال كل عام، ويحدث كل يوم نحو 55 زلزالاً حول العالم. وبناء على السجلات التاريخية يتوقع حدوث نحو 16 زلزالاً كبيراً كل عام، وهذا يعد نشاطاً طبيعياً للأرض منذ ملايين السنين. ولكن المدمر منه يأتي بغتة، ويضرب فجأة دون تمهيد، ودون إنذار، وإنه من الصعب في كثير من الأحيان تحديد خسائر الزلازل وعدد الضحايا.
وعرف البشر الزلازل منذ فجر التاريخ، وتم العثور على أدلة على آثار الزلازل في الحضارات القديمة لدى البابليين والمصريين واليونانيين والرومان، ورغم ذلك كثيرون لم يأخذوا حذرهم، ولم يتدربوا على الاستعداد لها، ولم يبنوا أبنية مقاومة إلا متأخرين، وفي بعض البلدان فقط.
ووجه الشبه:
أننا نكون في علاقة نحسبها ودية وعميقة ومستقرة مع معارفنا، ونتجاهل طبيعة النفس البشرية المتأرجحة والحساسة، وأحياناً نتجاهل الإشارات البسيطة ونتجاوزها، ولا ننتبه أنها قد تكون إنذاراً لنا… لنفاجأ ذات يوم بانهيار من أمامنا.
وإن القاعدة الصحيحة للتعامل مع أي شخصية هي الحذر، وأن نحسب الحسابات دائماً، ونتعامل بأخلاق عالية وذوق وأدب واحترام لكي نعزز الاستقرار النفسي والثقة والأمان، ولا نوصل أنفسنا أو الشخص الذي نتعامل معه للانهيار.
الثالثة: يمكن أن تحدث الزلازل في أي زمان وفي أي مكان على الأرض، على أنها أكثر شيوعاً في المناطق التي يكون النشاط التكتوني قوياً فيها، كصدع البحر الأحمر والحزام الناري جهة أمريكا واليابان.
ووجه الشبه:
أن كثيراً من الأزواج والآباء والأمهات لا ينتبهون، ولا يدركون أنهم يتعاملون أحياناً مع شخصية رقيقة ضعيفة، أو شخصية مثقلة منهكة فهي على حافة الانهيار، ولم تعد لديها أي طاقة للاحتمال؛ فيجورون ويعاتبون وينتقدون ويسخرون ويكثرون من التوجيه والنصح، حتى تميد وتهتز.
وقلَّ من المربين ومن المعلمين ومن الأرحام ومن الأزواج من يتفطن ويحسب الحسابات، ولا يدفع بمن يلوذون به لمرحلة الزلزلة والانهيار.
الرابعة: عادة وبعد الهزة الأولى المدمرة تستمر الهزات لأيام أو لأسابيع أو لأشهر وحتى لسنوات، إلا أنها تكون أقل قوة وتنخفض شدتها تدريجياً. والسبب، حسبما نقلت صحيفة "خبر تورك" التركية عن مرصد "كانديلي"، هو استمرار حركة الصفائح الأرضية والطبقات الجوفية التي انكسرت جراء الزلزال الكبير، بحيث تسمح لها تلك الهزات بالاستقرار بشكل جيد.
ووجه الشبه:
"نفسياتنا" إذا انكسرت واضطربت فسوف يطول جبرها ومداواتها، وقد تحتاج لمعالجة نفسية شاقة ومتعبة… فالأَوْلى أن نحافظ عليها سليمة معافاة.
الخامسة: وهي من شقين
1- الزلزال يمتد لمسافات:
وإن الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، في فبراير الماضي، شعرت بآثاره مدن تبعد ألف كيلومتر عن مركزه. وزلزال لشبونة الذي ضرب العاصمة البرتغالية عام 1755 وصل دماره إلى الدار البيضاء.
وزلزال سومطرة 2004 وقوته 9.1 درجة، أحدث موجات مد عاتية اجتاحت المحيط الهندي، وأثرت على المناطق الساحلية في العديد من البلدان، كإندونيسيا وسريلانكا والهند وتايلاند.
2- والزلزال له توابع خطيرة ومتنوعة:
والزلزال الذي ضرب جزيرة إيريان جايا 793 "إندونيسيا"، بقوة تقدر بـ8 درجات، تسبب في حدوث تسونامي هائل دمَّر الساحل.
والزلزال الذي وقع في مقاطعة شانشي الصينية عام 1556، وقوته حوالي 8 درجات، ومات فيه أكثر من 830 ألفاً، تسبب في تشقُّق الأرض، ما أدى إلى ظهور بحيرات جديدة، وأضرار واسعة النطاق في المباني والبنية التحتية، وحدوث انهيارات أرضية وتساقط الصخور وحريق، وارتفاع عدد القتلى.
وزلزال هايتي 2010 تسبب في وفاة أكثر من 200 ألف شخص، وتشريد أكثر من مليون ونصف المليون. وفي أضرار جسيمة للبنية التحتية، بما في ذلك الطرق والجسور والمباني، ما جعل من الصعب على جهود الإنقاذ والإغاثة الوصول إلى الضحايا.
وبسبب زلزال عام 2011 "وقوته 9 درجات" واجهت اليابان واحدة من أكثر الكوارث خطورة وتعقيداً في التاريخ، حيث تسببت موجات مد زلزالية في تسرب بمحطة فوكوشيما للطاقة النووية، فأعاقت أجهزة التبريد، وأحدثت أضراراً بالغة، أهمها انبعاث كميات كبيرة من المواد المشعة، ما زال أثرها لليوم، حيث أكدت تقارير حديثة وجود إصابات بسرطان الغدة الدرقية بين الأطفال، ولا يزال يحظر على السكان العودة إلى مناطق تبعد 30 كيلومتراً عن المفاعل.
ولقد غيَّرت بعض الزلزال الجغرافيا والتاريخ، وأشعلت حروباً وغيَّرت أنظمة، فحسب موقع خبرني الأردني، يُعتقد أن زلازلاً في اليابان قَوَّى اليمين المتطرف، الذي قاد البلاد لشن هجوم واسع في آسيا، وعلى قاعدة بيرل هاربور في جزر هاواي 1941، ما أدخل الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، وجعلها تقصف اليابان بقنبلتين نوويتين… فأصاب الأمة بصدمة، وأثار المشاعر القومية والعنصرية.
ووجه الشبه:
أن النفس حين تتزلزل تتغير كلياً بطباعها وسلوكها وأفكارها، وقد تتأثر بها شخصيات مقربة، وتنهار هي الأخرى بعد أن كانت صابرة وصامدة، وقد تتحول المشكلة النفسية لمرض عضوي… فتصبح المصيبة مصائب، والمشكلة مشاكل.
السادسة: أخطر حزام للزلازل "حلقة النار" الممتدة حول المحيط الهادئ الذي يشمل اليابان وغرب الأمريكيتين، فاستخدمت الدولتان التكنولوجيا للحد من الخسائر والمخاطر، وقطعتا شوطاً كبيراً في تطوير أساليب الحماية.
ويتمتع اليابانيون اليوم بوعي كبير بالتعامل مع الزلازل، وبشكل عام ينصح بالابتعاد عن النوافذ وعن أي شيء ثقيل يمكن وقوعه، فمعظم الخطر يأتي من الأشياء المتساقطة، ويفضل النزول تحت المكتب أو الطاولة للاحتماء، وعدم استخدام المصاعد الكهربائية أثناء وقوع الهزة. أو الهرولة بين المباني المتهالكة، وعدم إيقاف المركبات تحت الجسور أو خطوط الضغط العالي.
ووجه الشبه:
وجوب الحيطة والحذر حين نتيقن أننا في بؤرة الخطر، والمقصود حين نكون مع تلك الشخصيات الصعبة والمتنمرة، والنفسيات المريضة والسامة -كما أصبحوا يسمونها- التي تسعد بالإيذاء وبافتعال المشكلات، فهؤلاء نوصي بتجنب الاحتكاك معهم قدر الإمكان، واللجوء للصمت حفاظاً على السلامة والأمن.
السابعة: قد تعجبون أن الزلازل لها فائدة؛ وذلك لأنها تتيح لنا معرفة المزيد عن باطن الأرض.
ووجه الشبه:
أننا نتعرف على شخصيات من حولنا بشكل أعمق عند ضعفهم وانهيارهم، وهذا يفيدنا لنتجنب ذلك مستقبلاً، ولنحسن التعامل مع الذين سنصادفهم لاحقاً.
وبكل حال علينا أن نضع في بالنا أن أكثر النفوس اليوم هشة ومرهفة ومرهقة بسبب صعوبات الحياة وقسوتها، فتنبغي مراعاتها زيادة، ولا ننسى أن أكثر الإيذاء يأتي من (1) الكلمة التي نقولها ولا نلقي لها بالاً، فتهوي بعلاقاتنا. (2) ويأتي بعضه الآخر من السخرية والاستهزاء والغيبة والنميمة، وفي ابتعادنا عن هذه الكبائر خيرٌ عميم لنا، في الدنيا والآخرة.
وختاماً
كل التعازي والتعاطف والدعاء لإخواننا في المغرب، ولا ننسى إخواننا الذين تضرروا من قبل في سوريا وتركيا، إذ لا يزال كثيرون منهم يعانون من آثاره نفسياً أو مادياً، وكان الله بعونهم، وقدّرنا على إعانتهم والوقوف معهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.