"الجزيرة الفراتية" أو "الجزيرة الشامية"، أو ما كان يُسميه السُّريان بـ"سورية بريثا"، أيّ سورية الخارجية، أو الرومان بـ"سورية الأولى"، أو التي وصفها شمس الدين المقدسي في ترحاله (في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) في القرن العاشر الميلادي: "إقليم نفيس، وثغر من ثغور المسلمين، وهو واسطة بين العراق والشام، ومنزل الأخيار، ومعدن الخيل العتاق؛ رخيص الأسعار، جيد الثمار".
وهو إقليم نهري راسخ العمران منذ فجر الثورة الحضرية، ومن أقدم الأقاليم النهرية (بين نهري دجلة والفرات، ويمتد بين العراق وسورية والأناضول)، ويشغل الجزء الأوسط منه في سورية المجال الإداري لمحافظات الرقة ودير الزور والحسكة إدارياً، ورغم دورة الخراب "في المفهوم الخلدوني" في إطار الزحوف التترية نحوه، وطول أَمد اقتتال العشائر الغنّامة على المراعي والنفوذ فيه، فقد انطوت عملية الدمج الديموغرافي والإثني والتجاري في الدولة التنظيماتية العثمانية على تحويل الجزيرة الفراتية من إقليم طرفي للدواخل العربية "العراق وسورية والحجاز" إلى إقليم مندمج اقتصادياً وبشرياً بالأناضول والبحر المتوسط في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
وفي أوج الاندفاع الاقتصادي والعِلمي الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، تدفق إلى الجزيرة الفراتية جيشٌ من الرحالة السُّياح، والتجار، والرهبان، وعلماء الآثار، والجغرافيين، والأثريين، والرسامين، والشعراء، والضباط، والجواسيس الغربيين، فأخذوا يَجوبون الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، يرسمون الخطط، ويمسحون المناطق، فهاموا في مناطقها، وخَطفتهم عذرية طبيعتها، وطيبة ناسها، وأسرار بيئتها الطبيعية، وهؤلاء اختلفت مقاصدهم، ومصادر تمويلهم، وقد وجدنا في مذكراتهم ومخطوطاتهم الوصف المبهر والدقيق للسكان والعمران، والخيمة، والمرأة، واللباس، والأعراف، والخيول، والجِمال، وشظف الحياة وبساطتها في البيئة القبائلية الفراتية. ولم يكن هؤلاء الرحالة في يوم من الأيام رجالاً عاديين، بل هم مواطنون أفذاذ على درجة كبيرة من العلم والثقافة والوعي، فكان على أحدهم تعلم اللهجات المحلية، وآخر ارتداء الزي العربي، وغيره حفظ الأنساب، والأفكار، والمذاهب، والشعائر.
عام 1764م، دوَّن الكاتب الإنجليزي الدنماركي كارستن نيبور، الذي سافر إلى الجزيرة الفراتية، تفاصيل عن خمس قبائل كردية "دوكوري وأشيتي وكيكي وشيشاني ومللي"، وست قبائل عربية "طيء، وكعب، والبكارة، والجحيش، وذياب، وشرابح"، وبحسب نيبور، استقرت القبائل الكردية تدريجياً في القرى والمدن "الحسكة" في الجزيرة الفراتية السورية.
كما زار الرحالة الفرنسي جيرتشه أوغستوس لويس، الجزيرة الفراتية في القرن الـ18م، وبكتابه العديد من الأعمال حول تاريخ المنطقة وثقافتها. ومما كتبه عن الجزيرة الفراتية: "قمت بزيارة الجزيرة الفراتية ووجدت فيها آثاراً تشهد على تاريخ عريق وحضارة متقدمة، وهذه المنطقة لها أهمية كبيرة في فهم التاريخ الإسلامي والحضارة العربية"، وقال: "مكان ذو طبيعة خلابة، حيث يتدفق نهر الفرات بجانب القرى والمدن القديمة، مما يجعلها واحدة من أجمل المناطق في الشرق الأوسط".
بعده زار الألماني جاسبار سيتزن سورية عام 1802م، فعاش مع قبائل الفرات والبادية السورية، وعَرف طرق التجارة، وشيوخ القبائل، وعادات أهل الجزيرة، وكتب رحلته "رحلات إلى سورية وفلسطين". ومسح الكولونيل البريطاني شيزني (ضابط في مصلحة المساحة العسكرية البريطانية) في رحلته الجغرافية، منطقة حوض الفرات عام 1835م، وصدرت رحلته في مجلدين في الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية، واعتبر أبو المراجع التاريخية والجغرافية المسحية عن منطقة الجزيرة الفراتية حتى وقت متأخر.
وهناك عدد من الرحالة والمستشرقين الأوروبيين الذين قاموا بزيارة الجزيرة الفراتية، وقدموا مؤلفات غنية حول تلك المنطقة، ومن أهمها:
رحلة الباحث البريطاني هنري ليارد عام 1841م في تنقيبه عن الآثار وأصل الشعوب في الجزيرة الفراتية، وكتب تفاصيل دقيقة عن واحدة من القبائل العربية الكبيرة هناك، وهي قبيلة الجبور من بني زبيد.
رحلة المستشرق البريطاني فيليبس كيركوراندو: بعد زيارته للجزيرة الفراتية، كتب كتابه "مسيرة عبر الجزيرة الفراتية"، وهو من أبرز المصادر حول الجزيرة في القرن الـ19، يوثق فيه تجربةً شمولية عن تاريخها وثقافتها، ويقول: "الجزيرة الفراتية هي إحدى الوجهات الثقافية الرائعة في الشرق الأوسط، فهي تحتضن تراثا غنيا يعكس تأثير العديد من الحضارات على مر العصور"، و"نهر الفرات هو مصدر الحياة في هذه المنطقة"، و".. أثرت طيبة سكان الجزيرة الفراتية وضيافتهم الكبيرة على تجربتي، حيث قابلت العديد من الأشخاص الودودين والمضيافين."
رحلة المستشرق والرحالة البريطاني هورنوزد رابرز: زار الجزيرة الفراتية ومناطق أخرى في الشرق الأوسط في القرن الـ19، وقام بتأليف عدة كتب حولها، وكتب عن رحلته: "الجزيرة الفراتية هي واحدة من أماكن العالم القليلة التي تجمع بين الجمال الطبيعي الساحر والتاريخ الغني، إنها تأخذك في رحلة عبر العصور"، و"تلك المناطق الريفية الخصبة والحقول الخضراء الممتدة على طول نهر الفرات، تجعلك تفهم لماذا كان هذا المكان مركزا هاما في التاريخ الزراعي والثقافي".
الرحلة الأهم التي وثَّقت تاريخ الجزيرة الفراتية في الأدب الاستشراقي والسجل الاستخباراتي الغربي رحلة الرحالة والمغامرة البريطانية "الليدي آن بلنت" عام 1877م، وهي حفيدة الشاعر الإنجليزي اللورد بيرون، وزوجة الشاعر النبيل الرحالة ولفرد سكاون بلنت الذي قضى جزءاً من حياته في الشرق الأوسط دبلوماسياً وشاعراً، وكان خبيراً بالخيول والقبائل العربية، وهو صاحب فكرة مشروع "المملكة العربية التي يرأسها الأمير عبد القادر الجزائري"، وقد جمع الترحال بين أديبين يعشقان المغامرة والحرية، وكانت رحلتهما نحو الشمال في الجزيرة الفراتية والبادية الشامية بتكليف من الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية، ودونت كل أحداثها في كتاب عنوانه "قبائل بدو الفرات" الذي انتهت منه عام 1878م، وتتميز عن غيرها من الرحالة الغربيين الذين تجولوا في البلاد العربية والشرق الأوسط بكونها أديبة تتقن الوصف والتشويق، وواقعية موضوعية متزنة، وشخصية قوية وفريدة.
انطلقت في رحلتها باتجاه الجزيرة الفراتية من بيت القنصل البريطاني في حلب السيد "سكين"، وهو الأب الروحي لرحلات الإنجليز في الشرق الأوسط، ومنه تعلمت الليدي وزوجها مشاق الطرق بين حلب والجزيرة الفراتية، وكيفية التعامل مع البدو، وسمعت قصص البادية العربية، وذكرهم بأسماء فرسانها أمثال الشيخ أحمد الموالي والشيخ جدعان ابن مهيد والشيخ عبد الكريم الجربا، واشترى لهما كل ما يلزمان للرحلة التي كان يرافقهما فيها التاجر الحاج محمود الحلبي، والخادم الطباخ حنا الحلبي مع مجموعة من الحرس العثماني، ونزلا في الفرات الأوسط "دير الزور" في دار الحكومة بضيافة حسين باشا، والذي كان مكلف بحراستهما، ويحاول معرفة مآربهما من الرحلة، ثم نزلت وزوجها ضيفين عند الشيخ فارس الصفوق الجربا، ثم عادا إلى الدير، وخافا من نوايا الحكومة العثمانية التي بدأت تشك بنواياهما، فلم يطل بهما المقام هناك حتى أرسلهما الباشا ضمن فريق من الحراس، ويقودهم دليل تدمري هو محمد العراوج من قبيلة طيء إلى دمشق.
تقول الليدي آن بلمنت: "تذوقت القهوة العربية فوجدتها قوية ممتازة، وأعجبت بفناجينها الخزفية التي تُدار لكل الناس أكثر من مرة، وفي كل مرة يضع الساقي عدة ملاعق في الفنجان الواحد.. وهكذا حتى نهايتها…".، و"كانت الجزيرة والبادية السورية العليا قد سُكنت في ذلك الوقت من قبل قبائل رعوية مختلفة، بعضها عربية جاءت مع موجات الفتوحات الأولى تحت لواء الخليفة عمر، وبعضها من القبائل الكردية التي اندفعت إلى الأمام نتيجة للغزوات المعاكسة من الشمال في القرنين الثالث عشر والرابع عشر…".
عدَّدت الليدي مجموعة من زعماء القبائل والبطون المعروفين في الجزيرة الفراتية، ومنها: "… ابن مزيد شيخ الحسنة، وابن جندل شيخ الرولة، وابن الطيار شيخ الرولة، وابن الحميدي شيخ الهذال، وابن سمير شيخ ولد علي، وابن صفوق من الجربا، وشيوخ قبيلة طيء، وابن مرشد شيخ القمصة، وشيخ الموالي…".
كما جاء فيما دونته: "يعتبر النظام السياسي عند البدو بمنتهى الغرابة، لأنه يعطي مثالاً راقياً لأفضل أنواع الديموقراطية في العالم، وربما ديموقراطية البدو هي الوحيدة التي تتحقق فيها شعارات: الحرية والمساواة والأخوة..".
سافر الرحالة لخدمة الأوطان التي انطلقوا منها، ليكونوا عيونها التي ترى، وآذانها التي تسمع، وأقلامها التي تكتب، ورُب حادثٍ عابرٍ، أو خبر طريف ينقله الرحالة لقيادة بلده، يُغير مجرى عملياتهم جذرياً في المناطق التي قصدها الرحالة. حيث يمكن مثلاً فهم هذا الفضول حول الجزيرة الفراتية والتطلع إلى تلك المنطقة بمعرفة خطط بريطانيا التي كانت تفكر بمد خط سكة حديد أيام العثمانيين يبدأ من البحر المتوسط عبر الصحراء إلى الفرات، وعلى طول الفرات حتى يصل الخليج العربي، بهدف نقل الإمداد للجيش البريطاني في الهند، والعودة بالبضائع والمواد الخام عن طريق البحر، ولكن المشروع توقف تنفيذه نتيجة لتوصية مجموعة من الرحالة، ومنهم الليدي آن بلنت نفسها بعد زيارتها.
الجزيرة الفراتية بلاد زاخرة بالفرص والمخاطر في وقت واحد، كانت ولا تزال قلب الشام الكبير، والمنزلة "الاستراتيجية" التي أحسن الرّحالة والمغامرون والمستشرقون في وصفها في رحلاتهم وأدبياتهم ورسائلهم المكتوبة، جعلتها أشبه بـ"فردوس موعود" لساكنيها من جهة، وللقوى الإقليمية والدولية من جهة أخرى، يتقاتل فيها اليوم طامعون كُثر لينالوا حظاً من خيراتها الوفيرة، وإذا كانت سورية الحديثة، قد ازدهرت في مرحلة الثورة الزراعية وما تلاها بفضل الجزيرة، فإنها لن تستأنف ازدهارها، وسمعتها الاقتصادية من دونها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.