ملاجئ لإيوائهم وقوانين لحمايتهم.. كيف يطبّق الغرب آداب الرفق بالحيوان من المنظور الإسلامي؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/14 الساعة 14:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/14 الساعة 14:30 بتوقيت غرينتش
two different cats standing side by side outdoors in the garden

كان ذلك القط -أو ربما القطة- ذو الجسد المكتنز واللون الأسود المتداخل مع الأبيض في تناغم جميل، يمشي جواري بهدوء شديد أقرب إلى الكسل في ذلك الشارع الصغير الذي تحفه الأشجار من الجانبين.. في البداية لم أنتبه لوجوده، ثم فوجئت به يمشي بجواري، وبينما بدأت بالنظر إليه بانتباه لم يعرني هو انتباهاً وهو يسير بجواري بتمهل ثم يتجاوزني بنفس الهدوء، حتى وصل إلى بداية الشارع الذي يتقاطع مع شارع آخر، والطريف أن ذلك القط الأسود توقف قليلاً وهو يجول ببصره في حذر قبل أن يعبر الشارع ثم يتجاوز سوراً قصيراً لأحد المنازل بوثبة رشيقة قبل أن يتوارى عن ناظريّ..

ورغماً عني ابتسمت وأنا اتخيل لو أنني الآن أمشي في أي شارع أو حي من أحياء بلدي الحبيب اليمن أو أي بلد عربي.. هل كنت سأرى قطاً يمشي بهذه الطريقة الواثقة المطمئنة والآمنة على طريقة "واثق الخطوة يمشي ملكاً"؟ في ذلك اليوم لم أكن الوحيد في الشارع، وكان هناك مارة آخرون وأطفال، لكن مع ذلك كان ذلك القط يسير وسطنا بهدوء وأمان شديدين.. أما القطط المسكينة في بلادنا فهي تجري طوال الوقت، والذعر والهلع لا يفارقان عيونها وحركاتها، فهي تدرك بغريزتها أنه من الممكن في أي لحظة أن يمسك بها الأطفال ليسوموها ألوان العذاب، أو -لو لم يتمكنوا من الإمساك بها- قد يتسلون بقذفها بالحجارة بسادية حتى تموت أو تصاب بعاهة مستديمة!

في المجتمعات الغربية، خصوصاً في بلد كألمانيا تتم معاملة الحيوانات برحمة ورفق، وهذا الشيء يمارسه معظم الناس بشكل تلقائي وينشأون عليه منذ الصغر، كما أنه لا يوجد هنا شيء اسمه حيوانات متشردة أو ضالة تسرح وتجول في الشوارع لتأكل من صناديق القمامة أو لتظفر بلقمة رماها أحدهم هنا أو هناك، ففي طول البلاد وعرضها تنتشر ملاجئ للحيوانات الضالة أو تلك التي مات أصحابها، وهناك جمعيات خاصة تعنى بها وتؤويها، وهناك أيضاً عيادات مخصصة لعلاج هذه الحيوانات، وحينما يريد شخص ما اقتناء حيوان أليف مثل قط أو كلب فبإمكانه أن يذهب إلى أحد هذه الملاجئ كي يحصل على ضالته من هناك. ومن الشائع جداً حين يتصفح المرء جرائد الصباح أن يجد إعلانات تبحث عن أشخاص لديهم القدرة والرغبة على تبني قط ما أو كلب اضطر الملاّك السابقون للتخلي عنه لسبب أو لآخر.

 ومع ذلك فليست المسألة بهذه السهولة خصوصاً في ألمانيا بلد البيروقراطية والاستمارات، إذ يجب على من يريد اقتناء حيوان أليف أن تتوفر لديه المقومات اللازمة لذلك، وأن يكون لديه مسكن، كما يجب عليه أن يقوم بملء وتعبئة استمارات معينة، وأن يجيب عن بعض الأسئلة، وأن يلتزم أيضاً بأمور تتعلق برعاية وإطعام وعلاج وتطعيم هذا الحيوان!

الطريف أنه توجد في ألمانيا ضريبة على الكلاب! نعم.. إذا اقتنيت كلباً في ألمانيا فأنت ملزم بدفع ضريبة سنوية عليه (القطط ليست عليها ضريبة بالمناسبة)، والعائدات من وراء هذه الضريبة ترتفع باستمرار، حتى إنه في عام 2019 وصلت قيمة الإيرادات الضريبية التي دفعها أصحاب الكلاب في ألمانيا إلى حوالي 370 مليون يورو! وهذا الرقم الضخم يعطيك فكرة عزيزي القارئ عن عدد الكلاب الموجودة في هذا البلد! هناك أيضاً جمعية كبيرة في ألمانيا تمثل مصالح أصحاب الكلاب، ولها مقارّ وفروع في أماكن مختلفة. 

ولعل من أسباب انتشار الكلاب والحيوانات الأليفة في هذه المجتمعات ظاهرة فتور العلاقات الاجتماعية التي أشرت إليها من قبل؛ ما يجعل اقتناء حيوان أليف نوعاً من التعويض وعدم الشعور بالوحدة، خصوصاً لدى كبار السن. 

ومن المألوف جداً إذا عشت في دولة أوروبية أن تصادف بشكل يومي وأنت مارّ في طريقك أشخاصاً يتمشون مع كلابهم الأليفة، حيث يخبرك الجميع أن إخراج الكلاب في نزهة قصيرة يومياً أمر ضروري، حيث لا يجب أن تُترك حبيسة المنزل طوال اليوم وإلا ساءت طباعها. بل إن هناك من يقوم بهذه المهمة "أي إخراج الكلاب في نزهة" مقابل أجر، وذلك حين لا يكون لدى أصحاب الكلاب وقت للقيام بذلك!

ولا يقتصر الأمر هنا على العناية بالحيوانات، وإنما يتعداه لما هو أبعد.. فكثيراً ما تصادفني إعلانات معلقة في الأماكن العامة أو في وسائل المواصلات تتحدث عن معاناة حيوان ما في بلد ما، أو تدعو لوقف العنف ضد فصيل معين من الحيوانات، هذا عدا عن الندوات والفعاليات التي تقدم معلومات ونصائح وإرشادات عن الحيوانات الأليفة وغيرها.. 


طبعاً بالنسبة لمجتمعاتنا العربية فإن الحديث عن هذه الأمور التي تتعلق بـ"الرفق بالحيوان" والاهتمام به يقابل عادة بنوع من التهكم والسخرية. ومن المعتاد أن يسمع المرء عبارات على غرار "أليس الأولى أن نرحم بعضنا كبشر قبل أن نفكر في الرحمة بالحيوان؟"، ولا شك عندي أن بعضاً ممن سيقرأون هذا المقال قد يمر بخاطرهم نفس هذه الأفكار. 

 لكن الذي يغفل عنه الكثيرون هو أن استهتارنا وتعاملنا بقسوة وظلم مع الحيوان عامل يضاف إلى عوامل أخرى ساهمت في انتشار القسوة وانعدام الرحمة من قلوب الكثيرين تجاه بني جلدتهم من البشر..

قد يبدو الأمر فيه نوع من المبالغة ولسان حال البعض يقول "كفوا عن تضخيم الموضوع.. إنها مجرد حيوانات!"، لكن الإنسانية والشعور بالرحمة حيال مخلوقات الله لا يتوقف حصراً على بني البشر، ومن لا يرحم الحيوان لن يرحم أيضاً أخاه الإنسان، ودين الإسلام الحنيف يولي هذه النقطة أهمية بالغة، حيث أرسل الله نبيه محمداً "رحمة للعالمين"، وهو القائل سبحانه في كتابه الكريم: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) [الأنعام: 38].

أي إن جميع المخلوقات التي تدب على هذه الأرض "أمم" مثلنا.. ولنا في رسول الله أسوة حسنة وهو الذي تخبرنا سيرته أنه كان شديد الرفق بالحيوانات، وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام إن "في كل ذات كبد رطبة أجر". بل ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه لعن من يُمثل بالحيوان. ومع ذلك أين هذه الرحمة تجاه الحيوان عند كثير من المسلمين الذين يُفترض أنهم أتباع نبي الرحمة والإنسانية؟ ولماذا ينقلب الأمر عند كثير من الناس إلى سخرية واستخفاف بالأمر حين يكون الحديث عن الرفق بالحيوان وضرورة معاملة هذه المخلوقات برحمة؟

ما زلت أتذكر المشاهد المؤسفة التي كانت تحصل عند كل عيد أضحى في بلدي حين كنا نقوم بشراء الأضاحي ونذهب بها إلى أماكن الذبح صبيحة يوم العيد، فالقصابون يتعاملون بلا مبالاة محزنة في هذه المناسبات، حيث يقومون برص وتكديس الحيوانات جوار بعضها، ويتم ذبحها واحداً تلو الآخر بسرعة، بينما بقية الحيوانات واقفة تشاهد ما يحصل حتى يجيء الدور على كل منها! مع أن الفقه الإسلامي يخبرنا أن من آداب ذبح البهائم ألا تذبح بهيمة أمام أختها، لكن لا أحد يهتم، فالكل مشغول بكم سيجني جراء ذبح أكبر عدد من الأضاحي في ذلك اليوم وفي أسرع وقت! ولا ينتبهون إلى أن طريقتهم المستعجلة تلك فيها قسوة وتخلو من الرحمة، رأيت مرة بأم عيني شاة صغيرة تجري مذعورة بعد أن قام القصابون بذبح مجموعة من الخراف الأخرى أمامها، وكانت تدوس في جريها المذعور على جثث الحيوانات التي ذُبحت، في مشهد محزن للغاية، وما هي إلا ثوانٍ وأمسك بها أحدهم ليلقيها أرضاً ويجهز عليها دون حتى أن يكبر أو يذكر اسم الله!

في الحقيقة -وأقولها آسفاً- لا توجد في مجتمعاتنا تربية سلوكية مجتمعية تحض على الرفق بالحيوان وتغرسه في نفوس الناس منذ الصغر، ولا توجد لدينا أية قوانين لحماية الحيوان أو معاقبة من يسيء إليه، وكثير منا يتذكر كيف يتسلى الأطفال والمراهقون -وأحياناً الكبار- في مجتمعاتنا بتعذيب الحيوانات كلما أتيحت لهم الفرصة، لكن في ألمانيا على سبيل المثال يعاقب القانون من يسيء معاملة حيوان أو يعامله بقسوة بالسجن لمدة قد تصل إلى ثلاث سنوات، وإذا كانت الإساءة بسيطة أو تم إهمال العناية بالحيوان تكون العقوبة غرامة مالية. وإذا ثبت فعل الإساءة إلى حيوان ما قد تقوم المحكمة بفرض حظر مدى الحياة ضد الشخص المُدان لمنعه من امتلاك أي حيوان أو حتى التعامل معه.

وربما يعود البعض إلى الجدال بسخرية بأن مجتمعاتنا لا توجد فيها أصلاً قوانين لحماية الإنسان، بينما أتحدث أنا هنا عن القوانين التي تحمي حقوق الحيوان، وأعود لأقول إن هذا يقود إلى ذاك، وإن من يعامل الحيوان الضعيف بقسوة ويتلذذ بتعذيبه دون أدنى تأنيب ضمير ودون وجود رادع لن يعامل أخاه الإنسان برحمة فيما بعد..

بالتأكيد هناك مجتمعات بحاجة ماسة إلى قوانين تراعي الإنسان وتحميه وتصون حقوقه، لكن عدم وجود هكذا قوانين -أو عدم تطبيقها بالأحرى-  ليس حجة تبيح معاملة الحيوانات بشراسة وقسوة، فنحن بحاجة أيضاً إلى أن نتحلى بالرفق والرحمة، وأن نقدّر قيمة كل حياة خلقها الله على وجه الأرض ونرفق بها، وأن نغرس هذا الأمر في نفوس أطفالنا ونحثهم عليه حتى يصبح عادة لديهم، وحتى ينتشر الرفق والرحمة بين الجميع، وكما ورد عن نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أنيس الباشا
كاتب يمني مقيم في ألمانيا
مستشار لشئوون الهجرة في ألمانيا وناشط تطوعي في المنظمات الألمانية المعنية بشئوون الهجرة
تحميل المزيد