بكل المقاييس، لم تمر على ليبيا كارثة طبيعية أو إنسانية بهذا المستوى، لا في تاريخها الحديث ولا في تاريخها الموثق؛ حيث ضربت العاصفة دانيال الساحل الشرقي الليبي يوم التاسع من سبتمبر/أيلول لتبدأ من سرت حتى درنة وصولاً إلى الأراضي المصرية شرقي ليبيا.
مرت العاصفة برياحها وأمطارها وقسوتها مرور ضيفٍ ثقيلٍ على مدن الساحل الليبي وحرّكت الأتربة والغبار في سرت ورفعت منسوب أمواج البحر على سواحل بنغازي وانهمرت الأمطار شرقاً على مدينتي المرج والبيضا وقرى متاخمة لها؛ لتسجل محطة مدينة البيضاء للأرصاد أكبر معدل سقوط أمطار في تاريخ ليبيا بـ 414 ملم خلال 24 ساعة، بينما أتت مدينة درنة في المرتبة الثانية بأكثر من 216 ملم خلال 24 ساعة.
كل مدينة في الساحل الشرقي دفعت ضريبة مرور العاصفة بطريقة تختلف عن الأخرى، فبنغازي تعرضت لأضرار مادية نتيجة سرعة الرياح، بينما تأثرت مناطق مثل تاكنس وبطة المتاخمة لمدينتي البيضاء والمرج بارتفاع منسوب مياه الأمطار وسوء التصريف وتَشَكُل الأودية ومرورها بين المنازل مما سجل عشرات الموتى ومحاصرة مئات العائلات وارتفاع منسوب المياه داخل القرى المذكورة حتى ثلاثة أمتار وخسائر لا تعد ولا تحصى في المنازل والمباني والمرافق.
من جانبها، عزلت العاصفة مدينة سوسة الساحلية تماماً عن الجغرافيا الليبية؛ إذ جرفت الأودية الطرق وحاصرت المدينة جاعلة منها جزيرة تحيط بها المياه من كل جانب فلا استطاعت فرق الإغاثة الوصول لها براً ولا بحراً ولا جواً بسبب اشتداد الرياح، فظلت المدينة وحيدة تقاوم لساعات حتى انتهت العاصفة وتنفست المدينة الصعداء بعشرات الموتى والمفقودين ومئات المصابين في بلد يفتقر للإمكانات ليوزعها هنا وهناك.
كل ما سبق كان تمهيداً لصدمة ما سيجري في درنة، المدينة الليبية الساحلية التي تلقب بالزاهرة نظراً لامتلاكها النصيب الأكبر من أزهار الجبل الأخضر شرقي ليبيا، والتي دارت على أرضها رحى معركة بين إيالة طرابلس والولايات المتحدة الأمريكية في عام 1805م، مُني فيها الأمريكان بهزيمة تاريخية كانت لاحقةً لما يعرف بحرب السنوات الأربع بين ليبيا وأمريكا. درنة مدينة اشتُهرت بين الليبيين بالثقافة والفن والأدب، فهي تمتلك أكبر خزان بشري من الأدباء والمثقفين الليبيين على مر العصور، ناهيك عن احتواء مقابرها التاريخية على قبور عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضوا إبان فتح برقة على يد عمرو بن العاص أو فترة تواجدهم في المدينة.
كان السكان في درنة يعلمون بقدوم العاصفة المتوسطية، ويتوقعون أن تسوء الأحوال الجوية لكن أن ينهار السد ويحدث ما قد حدث، فهذا لم يكن في الحسبان، لك أن تتخيل أن التقديرات تشير إلى انهيار سد بارتفاع 30 متراً يحتجز الماء خلفه لعشرات كيلومترات بقيمة تقدر بـ 53 مليون متر مكعب تجتاح حياً سكنياً مكتظاً بالسكان وبمبانٍ قديمة ومهترئة، لك أن تتخيل قسوة السيول الجارفة بقوة لا يمكن تقديرها وهي تجتاح المنازل القديمة بجانب مجرى الوادي، لك أن تتخيل تلك الأم التي تحتضن أطفالها خوفاً عليهم من الرياح والأمطار فيجرفها هي ومنزلها وأطفالها سيل عرم يلقي بهم في البحر، لك أن تتخيل أن أحياءً بمساحة 700 ألف متر مربع قد تلاشت بالكامل، لك أن تتخيل آيات الله الكونية وما تفعله بالبشر.
تشير الإحصاءات الرسمية، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، إلى ما يتجاوز الـ 10 آلاف مفقود، بحسب بلاغاتٍ للهلال الأحمر الليبي، وتشير حتى هذه الساعة إلى العثور على ما يزيد على 5300 جثة لسكان المدينة وهو ما يعد مقارنةً بتعداد سكان ليبيا الذي يقارب الـ7 ملايين، رقماً فلكياً دون أدنى مبالغة، بينما تتعقد أعمال البحث عن ناجين نتيجة اختلاف نمط الكارثة بين الفيضان والزلازل؛ إذ تكثر الاحتمالات بين احتمالية وجود العالقين أو الجثث تحت الركام أو تحت الطمي أو في البحر (نهاية مجرى الوادي).
عمارات مكونة مما يزيد عن عشرة طوابق تلاشت بالكامل ولا يوجد شيء من أثرها، معالم المدينة التاريخية تغيرت وسوء إدارة الأزمة من السلطات الليبية زاد الأمر سوءاً، فالبلد منقسم بين حكومتين وجيشين وتعد بعض الدول الإقليمية مقربة من هذا ومنبوذة عند الآخر.
رغم ما عانته ليبيا من حروب أهلية ألقت بظلالها على نسيج العلاقات بين المدن والأقاليم إلا أن هذه المأساة هدمت جميع الحدود وتكاتفت فيها الجهود وسيرت قوافل الإغاثة بين المدن وتنقل الأطباء والخبراء هنا وهناك للمساعدة في التخفيف من حجم الكارثة، ولو هناك أي أمل من هذه الفاجعة، فهي أن تكون بداية فرصة لتحقيق التوافق والتقارب في بلدنا، لأن المصيبة كبيرة تصغر أمامها المطامح والمناكفات الرخيصة بين الأطراف السياسية أو العسكرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.