خلال الأيام الماضية حلّت الذكرى الـ18 على انسحاب آخر جندي إسرائيلي من غزة، 12 سبتمبر/أيلول 2005، وذكرى مرور 30 عاماً على توقيع اتفاقية أوسلو، في 13 سبتمبر/أيلول من عام 1993، ورغم أهمية حدث الانسحاب وضرورة الاستفادة منه كأول انتصار نحصد نتائجه على الأرض، فإنه لم ينل الاهتمام الكافي من البحث والدراسة.
هذا الشهر أيضاً ستمر علينا فيه الذكرى الـ13 لاندلاع انتفاضة الأقصى، التي اندلعت في 28 سبتمبر/أيلول 2000، والتي كانت أبرز نتائجها الانسحاب من غزة، رغم أن فكرة الانسحاب لم تكن وليدة انتفاضة الأقصى، بل طرحت أول مرة في الانتفاضة الأولى داخل حكومة إسحاق رابين.
إلا أن رابين فضّل وقتها عدم التعجل بالانسحاب، معولاً على المفاوضات مع منظمة التحرير، والتي أفضت إلى اتفاقية أوسلو، حيث حاول عرفات ترجمة نتائج الانتفاضة الأولى إلى مشروع سياسي يفضي إلى تحرير جزء من فلسطين وإقامة دولة عليها.
لكن موازين القوى التي أخرجت أوسلو أعطتنا حكماً ذاتياً تحت سقف الاحتلال، ومجالاً سياسياً يتحكم به الاحتلال، وقيوداً جعلت مواصلة عملية تحرير فلسطين أمراً مستحيلاً.
في المقابل، جاء الانسحاب عام 2005 بدون أي اتفاقيات، ومن جانب واحد، وبدلاً من أن ينتج منظومة شبيهة باتفاق أوسلو أخرج لنا نموذجاً مقاوماً وقوة قادرة على الوقوف بندية في وجه الاحتلال، فما الذي حصل، وكيف تطورت الأمور بهذا الاتجاه، وإلى أين تسير القضية الفلسطينية اليوم؟
انتفاضة الأقصى واستنزاف الاحتلال الصهيوني
جاءت انتفاضة الأقصى نتيجةً مباشرة لانسداد أفق التسوية السياسية بين السلطة والاحتلال، ولتصحيح أخطاء أوسلو، والتي تسرعت بوقف الانتفاضة الأولى مقابل تسوية ظالمة، أريد لها أن تكون تصفية للقضية الفلسطينية.
وبعد موجة شعبية استمرت لحوالي ثلاثة أشهر، انتقلت انتفاضة الأقصى إلى العمل المسلح، وكان أبرز أشكاله العمليات الاستشهادية، وكان هناك استنزاف لإسرائيليين، حينها صعد شارون إلى رئاسة الحكومة، تحت شعار أنه لا تفاهم مع الفلسطينيين ويجب سحقهم.
كان شارون يؤمن بأنه لا فرق بين حماس وعرفات، سوى أن حماس هي الوجه الخشن وعرفات الوجه الناعم لنفس العملة، وكان يرفض التفاوض مع عرفات أو السلطة.
واجه شارون مقاومة شرسة عندما حاول قمع الانتفاضة، كما واجه ضغوطاً دولية من أجل العودة إلى التفاوض مع السلطة، وللتحايل على ذلك كان قراره الانسحاب أحادي الجانب من غزة، والعمل على إيجاد بديل فلسطيني لياسر عرفات.
قرار الانسحاب من غزة
كانت غزة عبئاً تاريخياً على دولة الاحتلال؛ كونها منطقة كثافة سكانية عالية فلسطينية، وتحتل مساحة صغيرة (2% فقط من فلسطين التاريخية)، ولا توجد لها قيمة كبيرة اقتصادية أو تاريخية (من المنظور الإسرائيلي)، وفي المقابل كان الاحتفاظ بها منذ الانتفاضة الأولى يستنزف البشر بشكل كبير.
في المقابل تشكل الضفة الغربية القلب الجغرافي لفلسطين التاريخية، و20% من مساحتها، حيث تشكل مرتفعاتها عمقاً استراتيجياً لأماكن الوجود اليهودي في الساحل الفلسطيني، ولها بعد تاريخي كونها المكان الذي يزعم فيه إقامة دولة اليهود في العهود القديمة، كما توجد فيها خزانات مياه جوفية وبترول وغاز.
لهذا جاء قرار الانسحاب من غزة مع نهاية ذروة انتفاضة الأقصى، أواخر عام 2003، للتخلص من العبء التاريخي، وللحفاظ على الطابع اليهودي لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وأيضاً من أجل التفرغ لإنهاء الانتفاضة في الضفة الغربية.
إلا أن نقطة الخلاف التي صعدت إلى السطح كانت حول كيفية الانسحاب، فقد أراد شارون الانسحاب من جانب واحد، لأنه لم يكن معنياً بالتفاوض مع السلطة للأسباب السابق ذكرها، ولأنه لم يكن معنياً بعملية تفاوضية تضطره لتقديم تنازلات في الضفة، ويبدو أنه راهن أيضاً على غرق غزة في خلافات داخلية بين فتح وحماس، تبقى حكومة الاحتلال بعيدة عنها.
ووقف ضده حينها قادة الأجهزة الأمنية مثل الشاباك والاستخبارات العسكرية (أمان)، وكان أشد المعارضين هو رئيس أركان الجيش وقتها موشيه يعلون، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، ووصل الخلاف بينه وبين شارون إلى أن يرفض شارون تجديد موقعه في رئاسة الأركان (أي ما يشبه الطرد).
كما عارض خطة شارون للانسحاب وزير المالية وقتها (ورئيس الحكومة الحالي) بنيامين نتنياهو، والذي قدم استقالته قبل أيام من بدء تنفيذ الانسحاب عام 2005، وكانت وجهة نظر المعارضين تقول إنه لا يجب ترك قطاع غزة بدون وجود جهة ما تمسك القطاع بالتفاهم مع الاحتلال، حتى لا تستفيد المقاومة وحتى لا تظهر الأمور وكأن الاحتلال هرب من المقاومة.
لكن في النهاية فعل شارون ما يريد ونفذ القرار، وتبين لاحقاً أن تقديراته كانت خاطئة، وأن المقاومة استفادت بشكل كبير وطورت من قدراتها العسكرية، واستفادت حماس جماهيرياً بأنها أظهرت أن المقاومة هي الخيار الناجح الوحيد في مواجهة الاحتلال.
ما بعد الانسحاب من غزة
حرصت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وحكومة الاحتلال على التقليل من النتائج "السلبية" للانسحاب من غزة، وذلك من خلال الآتي:
أولاً: فرض حصار على قطاع غزة بحري وبري وجوي، وفرض ترتيبات على معبر رفح، تؤكد حق الاحتلال الإسرائيلي بحصار غزة فيما يعرف باتفاقية المعابر، وتَعزز هذا الحصار بعد فوز حماس بانتخابات عام 2006، وازداد حدة بعد عام 2007.
ثانياً: اللعب على وتر حماستان في غزة وفتحتان في الضفة، وهو مقترح من مخابرات الاحتلال أواخر عام 2005م (قبيل الانتخابات الفلسطينية)، وكان الأمل أن تفرز الانتخابات هذا الانقسام، لكن حماس فازت بالأغلبية في الانتخابات التشريعية، فكان البديل هو الفوضى الخلاقة، والتي قادت إلى الانقسام.
ثالثاً: بينما كان مشروع الانسحاب من غزة مرتبكاً ولا يسير في مصلحة الاحتلال، توصلت إسرائيل بقيادة أرئيل شارون إلى استخلاص، مفاده أنه في ظل وجود ياسر عرفات على رأس القيادة الفلسطينية، فإن اتفاقات "أوسلو" والاتفاقات الفرعية الأخرى لن تصلح لإعادة السلطة إلى مسار التعاون الأمني، ما دفعها للإقدام على تحرك سياسي بالتنسيق مع إدارة بوش الابن، لإيصال محمود عباس إلى رئاسة السلطة، ليحمل مشروعاً واحداً وهو عدم خرق السقوف التي يضعها الاحتلال.
استطاع الاحتلال بذلك تصدير مشاكله لتصبح مشاكل فلسطينية داخلية، وبالأخص الصراع بين فتح وحماس، والذي أنسى الفلسطينيين لفترة طويلة جوهر صراعهم مع الاحتلال، لكن في الوقت نفسه استطاعت المقاومة الفلسطينية (وبالأخص كتائب الشهيد عز الدين القسام) تطوير قدراتها القتالية، وخاضت حروباً ضارية مع الاحتلال.
عززت تلك الحروب قناعة المؤسسة الأمنية ونتنياهو بخطأ خطوة شارون، وهكذا يجب أن نفهم حصار غزة اليوم، وضرورة تنسيق الاحتلال مع السلطة، على أنه محاولة لتصحيح خطأ شارون، سواء كان عبر إغراق غزة في مشاكلها الداخلية أو إعادتها لوصاية عباس، واستنزاف المقاومة حتى الرمق الأخير، حتى لا تكون غزة قاعدة لأي حرب تحرير مستقبلية، وحتى لا تكون قدوة للمقاومة في الضفة الغربية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.