الوحدة تقتل المجتمع.. لماذا تتفكّك الروابط الإنسانية؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/13 الساعة 14:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/13 الساعة 14:21 بتوقيت غرينتش
الوحدة / صورة تعبيرية -shutterstock

لا أعتقد أنني أبالغ إذا قلت إن الشعور بالوحدة من أكبر المخاطر التي تواجه الإنسان في عصرنا الحالي. توجد تعريفات عديدة لمفهوم "الوحدة"؛ إذ نستطيع تعريفها بالمفهوم الأوسع على أنها الشعور بالحرمان الاجتماعي، فعادةً ما تُعرف الوحدة على أنها حالة يكون فيها المرء وحيداً مادياً (جسدياً) في المجتمع. ورغم صحة هذا التعريف نسبياً إلا أنه يعجز عن توضيح تجربة شعور المرء بالوحدة وسط الحشود. الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، إلا أنه قد يستطيع التكيف جسدياً للعيش خارج المجتمع وبعيداً عن الآخرين لفترة من الوقت، لكن نمط هذه الحياة قد يتحول من الناحية النفسية إلى وضع صعب ومعقد يهدد صحته العامة.


تزداد اليوم ظاهرة الشعور بالوحدة والاكتئاب؛ إذ يمكن القول إنها تعدت كونها مجرد مشكلة نفسية على المستوى الفردي، بل أصبحت مشكلة اجتماعية لها تداعياتها على كافة سلوك المجتمع. وربما يرجع تفشي الوحدة في هذه الفترة لقلة الاتصال المباشر بين البشر (التواصل وجهاً لوجه) بشكل كبير. ففي عصر يتسم بالسرعة الفائقة وطغيان فلسفة الاستهلاك، أصبحت العلاقات الإنسانية أكثر هشاشة، وزادت النزعة الفردانية للأشخاص، فنلاحظ انخفاضاً في التضامن العام. وهذا ما كشفه لنا عالم الاجتماع البولندي زيجمونت بومان ببراعة خلال كتابه "الحب السائل"؛ حيث يصف الحب ما بعد الحداثة وتفكك الروابط الأسرية وروابط الصداقة في زمن أصبحت فيه العلاقات الوهمية أو العلاقات الإلكترونية، أكثر أماناً من الروابط الحقيقية.

نجحت البشرية في تطوير كم هائل من وسائل التواصل في تاريخها، إلا أن وصلت ليومنا الحالي بتوفيرها تكنولوجيا تقربنا حتى وإن كنا في قارة أخرى، رغم ذلك، نجد اليوم أن الوحدة أصبحت أزمة اجتماعية بطريقة مثيرة للسخرية، وهذا ما يوضح كيف نحن البشر طوّرنا وسائل تواصل ساعدت في تدمير ما تتسم به العلاقات الاجتماعية والوجدانية من عفوية وتلقائية عاطفية.

لذلك تبرز ظاهرة الوحدة حالياً كموضوع هام في العديد من المجالات، خاصة في مجال الفلسفة والأدب. كما أصبحت ظاهرة يهتم بها العديد من الحكومات حول العالم. فأثناء مناقشة التحولات والتغيرات الاجتماعية في الدراسات الحديثة برز مفهوم وحدة الأفراد في المجتمع؛ إذ أظهرت دراسة حديثة حول الشعور بالوحدة، أجرتها المفوضية الأوروبية، أن 13% من الأوروبيين يشعرون بالوحدة في معظم الأوقات أو طوال الوقت.

ووفقاً لأحدث استطلاع للرأي جرى في الولايات المتحدة، أظهر أنه منذ عام 1990، ارتفعت نسبة الأمريكيين الذين لديهم أقل من ثلاثة أصدقاء مقربين، من 16% إلى 32%، كما ارتفعت نسبة الذين أفادوا بعدم وجود أصدقاء مقربين إطلاقاً من 3% إلى 12%.

أما في تركيا فأظهرت نتائج استطلاع حول الوحدة في سنة 2022، أجراه مركز "الأسرة والوحدة" أن 40% من الشباب ضمن الفئة العمرية 18-24 سنة، و26% من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 55 عاماً، يشعرون بالوحدة في أغلب أوقاتهم. وفي استطلاع للرأي أجراه المركز سنة 2019، تبين أن الأشخاص الذين يشعرون بالوحدة شعروا بالتعاسة والحزن مرتين ونصفاً أكثر من الأشخاص الذين لا يعانون من الوحدة. حيث كشفت الدراسة أن النسبة ارتفعت 3 مرات ونصفاً مقارنة مع عام 2022.

وتجري حالياً عملية تطوير سياسات جديدة لمكافحة ظاهرة الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية في العديد من الدول؛ حيث باتت الظاهرة تتفاقم تدريجياً فأصبحت مشكلة تلزم الحكومات على التعامل معها. حيث اعترفت اليابان وبريطانيا بخطر انتشار الوحدة وآثارها السلبية، مما دفع الحكومة إلى إطلاق "وزارة الوحدة" وإسناد مهامها لوزير الرياضة والمجتمع لتولي مسؤولية التعامل مع مشكلة الوحدة والعزلة الاجتماعية وقد خصصت الحكومة ملايين الجنيهات الإسترلينية لمحاربة الوحدة. وهذا يوضح حجم مكافحة الدول لهذه المشكلة.

الوحدة
صورة تعبيرية – عربي بوست

التذكير بالروابط الاجتماعية

بالنظر إلى الحياة الاجتماعية في المدينة المعاصرة، نجد أن عدد أفراد العائلة انخفض بشكل واضح، وضعفت الروابط الاجتماعية؛ إذ فقدت علاقات الجوار والقرابة والصداقة أهميتها وقيمتها، وأصبحت بعض القيم بلا معنى. كما حلّت العلاقات الاﻓﺘﺮاﺿﻴﺔ ﻣﺤﻞ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ بالتزامن مع انتشار التكنولوجيا.

بالإضافة إلى نمط الحياة المليء بالتوتر الناجم عن الحداثة الفائقة بات يجر الناس إلى العزلة والوحدة أكثر. ففي عالمنا الحديث، يتم الإشادة بالوحدة لتبرز كحالة طبيعية للوجود. ومن الواضح أن هذا السلوك يتجاوز بكثير خطاب التحرر المعبر عنه في العصر الحديث؛ إذ يترتب عليه دفع أثمان جديدة.

إن الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية يشكل خطراً كبيراً على الصحة العامة وسعادة الإنسان. لذلك من الضروري اتخاذ التدابير اللازمة على ﺍﻟﻤﺴﺘويين الفردي والمجتمعي. وتعد مسألة تعزيز شبكات الدعم الاجتماعي وإنشاء علاقات بناءة وهادفة بين الأفراد واحدة من أكثر الطرق فعالية للحد من الشعور بالوحدة.

في عالم يجري فيه تلقيننا المفاهيم والقصص التي تركز على استمرار العودة إلى أنفسنا والنظر إليها، والتي أصبحت الأكثر شعبية واستحوذت على مجال علم النفس، يجب علينا أن نتذكر أننا بحاجة إلى إقامة روابط تواصل حقيقية أكثر من أي وقت مضى. فالتواصل الحقيقي واللقاء بين الأفراد يعزز من مظاهر التضامن والانسجام الداخلي في المجتمع، كما يساعد على الحد من الشعور بالوحدة والاغتراب الذي سببته التكنولوجيا والتمدن الزائد.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

شيما سوتشين
كاتبة تركية
تحميل المزيد