مقاربات المفكرين العرب مع الحداثة

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/13 الساعة 10:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/13 الساعة 10:40 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/ shutterstock

منذ الصدمة الحضارية التي تلقاها المسلمون من الغرب، وبداية الاشتباك الثقافي والفكري، الذي بدأ مع نتائج حملة نابليون على مصر والشام (1798-1801م) تعددت المقاربات الفكرية التي قدمها العرب والمسلمون تجاه أفكار الحداثة الغربية أثناء تفاعلهم مع أفكارها ومنتجاتها، وهي الأفكار التي قامت عليها الثورة الصناعية الغربية، وارتبطت بالمرحلة الكولونيالية وما بعدها.

من هذه المقاربات ما يرى أن أفكار الحداثة ما هي إلا أفكار غربية لها خصوصيتها التاريخية ولا حل إلا في القطيعة مع كل ما هو غربي والعودة إلى التراث والذات، وبين مقاربات ترى أن الحداثة وأفكار التنوير الغربية هي محصلة جهود إنسانية مترفعة عن خصوصية الجغرافيا الغربية، وعلى المسلمين حجز مكان لهم في العالم من خلال اعتناق كل هذه الأفكار وإحداث قطيعة لا رجعة فيها مع التراث الذي تسبب بتخلفنا وتأخرنا، وبين من يقف خطاً وسطاً، داعياً إلى التفاعل الحضاري مع الغرب دون تجاوز للخصوصية الثقافية والهوية.

وهنا سنسرد عدداً من هذه المقاربات الفكرية التي أنتجها المفكرون العرب.

المقاربة الإصلاحية لطه عبد الرحمن:

وهي مقاربة تميز بين "روح الحداثة" و"تطبيقات الحداثة". روح الحداثة هنا تمثل مجموعة القيم والمبادئ والأفكار التي يمكن أن تساهم في تقدم الأمم، وهي قيم عالمية تشمل البشر بشكل عام في أي زمان ومكان. بينما تطبيقات الحداثة تعبّر عن تحقيق القيم والمبادئ الحداثية في سياق زمني ومكاني محدد. وهذا يعني أن كل أمة يمكنها تحقيق الحداثة بطرق تناسب ثقافتها وظروفها الخاصة، ولا تكون مقيدة بنموذج واحد يجب تقليده، لكن عبد الرحمن لا يغفل عن نقد العقل المجرد المنتج للحداثة، ويحاول إعادة بناء العقل الأخلاقي المؤيد بالعمل والمسدد بالشريعة لإعادة إنتاج حداثتنا الخاصة بنا من خلال عقلنا الخاص.

بناءً على هذا التفرق الذي قدمه طه عبد الرحمن، يصبح النموذج الغربي للحداثة مجرد نموذج واحد من بين العديد من النماذج الممكنة لتحقيق الحداثة، وبالتالي، يمكن للمسلمين أن يكتشفوا نموذجاً خاصاً بهم لتحقيق الحداثة ينسجم مع قيمهم وثقافتهم واحتياجاتهم الخاصة، دون الحاجة إلى تقليد النموذج الغربي بشكل مطلق.

المقاربة الفلسفية:
وهي مقاربة أبو يعرب المرزوقي، الذي ينطلق من مسلّمة تقول "بوَحدةِ التفكير الديني والفلسفي" ويرى أن أفكار الحداثة جاءت لنقض فكرَتين: فكر الوصاية البدنية على جسد الإنسان، والحكم بالحق الإلهي من قبل الكنيسة، وفكرة الوصاية الروحية على الإنسان من قبل رجال الدين وإلغاء الوساطة الدينية، وجعل العلاقة بين الرب والعبد علاقة مباشرة، وهو عين ما جاء به الإسلام برأي المرزوقي، فنفى -أي الإسلام- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوصاية المادية، فقال: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر﴾، ونفى عنه الوساطة الروحية، فقال تعالى: ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾. لكن مع فلسفة هيغل تحولت الحداثة من منهج تفلسف حر يبحث عن الخلاص إلى أيديولوجية عُنصرية تتكور على الذات وتُعلي من شأن الرجل الغربي الأبيض وتدّعي أنّ فكرة الحرية التي جاء بها الغرب هي نهاية التاريخ، ولم يعترف بحضارة إنسانية إلا الحضارة الغربية كحضارة قادرة على تحقيق الخلاص للإنسان، وهو ما ألهم فرانسيس فوكو ياما ليكتب كتابه "نهاية التاريخ".

المقاربة الفليلوجية:
عند وائل حلاق، وهو منهج يقوم على اكتشاف جذور الأفكار الحداثية، واكتشاف نظام العلاقات بين الحداثة والنزعة الاستعمارية وعصر الاكتشاف وقيام العلم الحداثي والعلاقة العِلَلة بينها، واكتشاف ترتيب السابق على اللاحق، والتمييز بين المقدمة والنتيجة، ثم محاكمة أفكار الحداثة من مآلاتها في تدمير الصحة والبيئة، وانقراض السلالات الحية، وتدمير المناخ، وكشف كذبها في تحقيق الرفاهية والسلام والطمأنينة للإنسان.

حيث يرى حلاق أن أفكار الحداثة هي منتج عصر الاكتشاف والحقبة الكولونيالية، ولا يمكن أن توافق أبداً مع أحكام الشريعة الإسلامية، لأن الدولة الحديثة تقوم على نطاقين مركزيين هما العلمانية في السياسة والرأسمالية في الاقتصاد، بينما المجتمع الإسلامي يقوم على نطاقين مركزيين هما الشريعة الإسلامية والتصوف كموجه للأخلاق، وعليه فإن اللقاء بين الحداثة والإسلام ضرب من الاستحالة.

المقاربة التلفيقية:
وهي تنتهج إضفاء الصبغة الشرعية على مفاهيم الحداثة، بجعل الديمقراطية مساوية للشورى، والحاكم في الدولة الحديثة مساوياً للخليفة، والضريبة مساوية للزكاة، وإدخال القانون الوضعي في أحكام التعزير. وهكذا الحال عند بعض من يدّعي الفهم المقاصدي للشريعة، كما في حالة بعض الجماعات الإسلامية المغاربية.

المقاربة التأويلية:
وهي تذهب إلى تأويل التراث تأويلاً ينتهي إلى اعتناق الحداثة باعتباره مُنتجَ التراث "الذات"، وهذا ما فعله التيار اليساري بعد نكسة 67، فقد اعتبروا أن محاولة فرض الحداثة بالطريقة القهرية على المجتمعات العربية باءت بالفشل، ولا بدّ من خوض معركة التنوير مع الإسلام السني "الأرثوذكسي" من أجل إخراج حداثة من صلب ثقافتنا بدلاً من الاستيراد المباشر من الغرب. وسار على نهج ذلك محمد عابد الجابري في توظيف الرشدية، وحسن حنفي في تصميم اليسار الإسلامي، والطيب التيزيني والبحث عن مبررات الثورة في التراث، ويحيى محمد، ومحمد أركون في نقد العقل الإسلامي، ونصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور في قراءته المعاصرة للنص، كما بيّن تهافت بعض هذه القراءات الناقد جورج طرابيشي في كتابه "مذبحة التراث".

المقاربة الانتقائية:
أغلب المدرسة التقليدية والسلفية التي تقول: "نختار منها -أي أفكار الحداثة- ما يوافق ديننا ونرفض ما يخالفه"، ويبرز هنا الاختيارُ لأدوات المدنية الحديثة، من وسائل الاتصال وأدوات الانتقال والتقنية الميكانيكية والإلكترونية والكهربائية التي يستخدمها الإنسان، وقَبولُ أساليبها التنظيمية ضمن قاعدة المصالح المرسلة، مع رفض تصوراتها السياسية والثقافية. وهو ما كان يدعو له محمد عبده والأفغاني ومحمد رشيد رضا، حتى سيد قطب كان يرى ضرورة الاقتباس من التحديث الغربي والقطيعة مع الحداثة باعتبارها تمظهر من تمظهرات الجاهلية الحديثة.

مقاربة سدّ القصور:
وهي مقاربة علي عزت بيغوفيتش، الذي كشف عن جانب قصور الحداثة الغربية على الجانب المادي من الحياة والإنسان والتسليم للعلم التجريبي كمصدر وحيد للحقيقة، دون الاعتراف بالعالم الجواني للإنسان ولا تطلعاته الروحية وأسئلته الوجودية كذلك كان محمد إقبال الشاعر الباكستاني يدندن دائما إلى هذا القصور الروحي في الحداثة الغربية والتفاوت المخلّ بين بطر الجسد ووفور العقل وبين خواء الروح وكلل البصيرة.

المقاربة التفكيكية:
وهي مقاربة الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي يعود إلى مفاهيم الحداثة ومصطلحاتها من الحرية والتقدم والسعادة والعلم، ليكشف جانب التحيز الغربي لهذه المفاهيم، وأنها تحوي مفاهيم مختلفة عن مفاهيمنا نحن المسلمين، وتطبيق المنهج الأركيولوجي لكشف الحقب التاريخية في تطور أفكار الحداثة وانتقالها زمنياً من مرحلة الثنائية، إلى مرحلة الأحادية المادية الصلبة، إلى مرحلة السيولة وما بعد الحداثة والنموذج المعرفي والفلسفي الكامن في جوهرها، وهو ما ينفي عنها البراءة والحيادية تجاه الثقافة والأخلاق.

المقاربة الإيديولوجية:
وقد سميتها بهذا الاسم لأنها تتعامل مع أفكار الحداثة بنفس عقلية التيارات القومية واليسارية والإسلامية الإيديولوجية في اعتناق أفكار أحزابها السياسية من دون تمريرها على محك النقد وإعادة القراءة، لدرجة تشبه النزعة السلفية في اتباع الآثار وأقوال السالفين، لكن هنا شيوخ السلف بالنسبة لهذا الاتجاه هم نتشه وفوكو ورسل ودريدا.

تنتهي هذه المقاربة إلى القطيعة التامة مع التراث بكل أشكاله من تراث الوحي والنص إلى تراث المنهج المعرفي لفهم النص إلى المنتج الاجتهادي لما تم استنباطه من النص من الفقهاء المسلمين.
وإعلان التبعية المطلقة للحداثة الغربية بحذافيرها وبأكثر نسخها تطرفاً وإلحاداً وجعل الدين مجرد اختيار شخصي متعلق بالضمير، وليس له أي دور اجتماعي في المجال العام، ويأتي على رأس هذا الاتجاه أدونيس في الثابت والمتحول، وصادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني.

الخلاصة:
ما عدا المقاربة الإيديولوجية التي تنبعث من شعور الدونية والقزمية أمام الغرب واحتقار الذات، فإن باقي المقاربات كلها تحوي جزءاً كبيراً من الحق، لكن حتى تبقى هذه المقاربات فاعلة لا بد من موازنة دقيقة وحساسة في إعمالها، ونفي جموح التطرف عنها في كل منها، فلا يقبل من المقاربة الإصلاحية أن تبقى أسيرة للمصطلحات الغربية ولا للمقاربة التأويلية أن تؤول المحكمات والعقائد ولا من المقاربة الفلسفية أن تجعل من أفكار الحداثة ظاهرة إنسانية معزولة عن الحيز الجغرافية.

لكن لا شك أننا بحاجة لنسخة معدلة عن الحداثة، حسب المقاربة الإصلاحية وبحاجة لعزل الأفكار الحرة لدى الغرب من المواقف الأيديولوجية التي ألبست لبس الفلسفة والفكر كما تقول المقاربة الفلسفية، ولا بد من اعتبار الأدوات الغربية في التنظيم والسياسة التي تتفق مع مقاصد شريعتنا في تحقيق الشورى والاستقرار واستكمال جانب القصور المعنوي والروحي الذي تعاني منها الحداثة الغربية، كما في مقاربة سد القصور، ولا بد من دراسة الحداثة ومفرداتها ضمن السياق الغربي والنموذج المعرفي الآمن فيها وما تولد عنها من أفكار سائلة كما في المقاربة التفكيكية، وكذلك بحاجة للتمييز بين فلسفة الحداثة ومنتجاتها الخدمية المادية الحيادية عند الاقتباس من الغرب كما في المقاربة الانتقائية.
ما يعني أننا بحاجة إلى مقاربة مركبة ومعقدة تتآلف من كل ما سبق لتحديد موقفنا المنطقي والشرعي من أفكار الحداثة، بعيداً عن الحمولة النفسية والتاريخية التي شكلت قابليتنا الفكرية في الحكم على الغرب ومنتجاته الفكرية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عباس شريفة
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي
تحميل المزيد