يُعَدُّ الاقتصادي وعالم الاجتماع المصري سمير أمين واحداً من خبراء الاقتصاد السياسي البارزين على نطاقٍ واسع، فضلاً عن كونه رائداً في تعريف تاريخ البشرية المعاصر من منظور دول العالم الثالث؛ إذ يحاول شرح كيفية عمل الرأسمالية وتطورها على مستوى العالم من خلال نظرية المنظومات العالمية.
إذ يرى سمير أمين أن اقتصاد العالم ينقسم إلى منطقتين رئيسيتين: المركز الذي يمثل الاقتصادات المتقدمة، والأطراف التي تمثل الاقتصادات النامية المعتمدة على المركز. تقول نظرية أمين إن دول المركز تفرض هيمنةً اقتصادية، وسياسية، وثقافية، وعلى دول الأطراف، ما يسمح لدول المركز باستغلال موارد دول الأطراف، والسيطرة على اقتصاداتها، وزيادة هيمنتها الثقافية. بالتالي سنجد أن الاقتصاد العالمي يُثري دول المركز بطريقةٍ دورية وغير عادلة، بينما يُبقي على دول الأطراف في حالة من الفقر والتبعية، لتتحول بذلك الأراضي الغنية إلى مركز جذب شعوب من نظيرتها الفقيرة.
لا شك أن الارتباط والثقل التحليلي لعمل أمين يحملان أهميةً خاصة في تحليل الزمن المعاصر الذي يتميز بالأزمات المتشابكة؛ إذ يمكننا تحليل وتفكيك ظواهر عديدة مهمة، كظاهرة الهجرة التي تُعد واحدةً من الديناميات الرئيسية في ظل العولمة.
العولمة و"نزعة الهروب من الوطن"، أو "حمى الهروب إلى الدول الأجنبية" بعبارةٍ أخرى…
يمرّ عالمنا اليوم بفترةٍ صعبة تُعرف باسم العولمة، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمجتمع ما بعد الصناعة وما بعد الحداثة، إلى جانب تفكك النظام الرأسمالي. وباعتبارها ظاهرةً جديدة من نوعها، سنجد أن العولمة تُروّج لحرية حركة رؤوس الأموال عن طريق التشجيع على إلغاء الحدود الوطنية، حيث تسمح للطبقات الرأسمالية بزيادة أرباحها بينما تُعرِّض الطبقة العاملة لمنافسة متزايدة، وظروف عمل سيئة، وبطالة.
في هذا السياق، يجادل أمين بأن عصر العولمة بدأ بدعوةٍ لتأسيس نظام ليبرالي جديد مبني على الهيمنة المطلقة لرأس المال، متجاهلاً الجوانب الاجتماعية والإنسانية للتنمية الاقتصادية بكل أريحية. وفي ظل ذلك، تطوّرت الممارسات القديمة مثل تجارة العبيد أو الاستعمار أو الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة على الفصل العنصري، والتي تحولت اليوم إلى برامج تطبيقية عديدة كالعمالة الوافدة وسياسات الهجرة الانتقائية، كمنح تصاريح الجنسية والإقامة في الدول الثرية.
نستطيع القول بأن ديناميات الهجرة بشكلها غير العادل اليوم، قد ترسّخت جذورها في أنماط التجارة القائمة ضمن إطار التنمية غير المتساوية للرأسمالية العالمية. إذ أسفرت هجرة العمالة عن خلق واستدامة الفوارق الإقليمية بين الشمال والجنوب في التنمية وتفاقم أوجه عدم المساواة. وهكذا حافظت العولمة على التسلسل الهرمي العالمي الذي عادة ما يُشار إليه عبر تقسيم الدول إلى نامية ومتقدمة.
إن نظام تنقل العمالة العالمي اليوم يجبر الأفراد على ترك أوطانهم ويدمر سُبل ومصادر رزقهم، كما يدفعهم إلى أحضان قنوات الهجرة الضيقة وغير المستقرة والقيود التعسفية على الحدود ومراكز الاحتجاز، علاوةً على أن المنافسة مع المجموعات المحلية في الدول المضيفة تزيد من الصعوبات التي يواجهها المهاجر. وقد صارت هذه القوى العاملة المجزأة منتشرة وموجودة بشكل واضح بفضل أنظمة العمل الليبرالية، وسياسات الدول المتشددة في ضوابط الحدود.
إحصاءات عن الهجرة
دعونا نلقي نظرةً على حركة المواطنين داخل العديد من الدول التي يمكننا تصنيفها كإحدى دول المركز أو الأطراف، وذلك حتى نوضح فهماً أفضل حول مدى أهمية الهجرة كظاهرة بالنسبة للتنمية الرأسمالية.
فوفقاً لتقرير الهجرة العالمية الصادر عن الأمم المتحدة في عام 2019، هناك نحو 271,642,105 مهاجرين دوليين في العالم. ويجب الإشارة إلى أنه خلال الـ30 عاماً الماضية، زادت أعداد المهاجرين الدوليين بنسبة حوالي الـ78%.
وبالنسبة للدول التي تحتل المراكز العليا في تصنيف أكثر الجنسيات المطلوبة، فسنجد أن الحصول على جنسيات تلك الدول أصعب من غيرها؛ حيث تعد الجنسية السويسرية مثلاً أغلى جنسيات العالم، ولهذا يُمثل الحصول عليها حلماً وردياً بالنسبة لمواطني الدول "الأفقر".
بالنظر للتقرير ذاته سنجد أن أكثر من 141 مليون مهاجر مقيم في أوروبا وأمريكا الشمالية خلال عام 2019، وتستضيف الولايات المتحدة بمفردها أكثر من 50 مليون مهاجر دولي، وفقاً لآخر إحصائية عام 2019، لتصبح الدولة المضيفة الأولى للمهاجرين على مستوى العالم، وتواصل بذلك إرثها كوجهةٍ رئيسية للمهاجرين الدوليين منذ عام 1970.
والسؤال: من أين يأتي هؤلاء المهاجرون؟ في عام 2018، شكّلت دول آسيا أكثر من 40% من إجمالي المهاجرين الدوليين، وتصدّرت الهند تحديداً هذه القائمة بـ17.5 مليون مهاجر دولي. وحلّت المكسيك بعد الهند مباشرةً، تليهما سوريا التي تجاوز عدد المهاجرين منها حاجز الـ8 ملايين إنسان بسبب الحرب السورية.
التنمية الرأسمالية = سراب
هل يُعَدُّ وصف ظاهرة الهجرة بأنها "حركة الأفراد من الدول المتخلفة إلى الدول التي تتقدم بسرعة في سباق التنمية الرأسمالية" وصفاً دقيقاً؟
ينتقد سمير أمين وهم سباق التنمية الاقتصادية، ويشير إلى الجاني الحقيقي هنا عن طريق تقديم وجهة نظر بديلة؛ إذ يجادل بأن فكرة سباق التنمية الرأسمالية هي مجرد وهم، وأن الدول الفقيرة قد جرى دمجها داخل النظام العالمي لتكون معتمدةً على الغرب المتقدم منذ البداية. ولا تتعلق المشكلة بالإخفاق في الفوز بالسباق المزعوم، بل بحقيقة عدم قدرتهم على التحرر من علاقة التبعية.
ولعل تناول واقع الهجرة من هذا المنظور يمكن أن يؤدي إلى منعطفات ونقاط حيوية. إن الوعي بوهم التطور الرأسمالي يمكن أن يدعو الناس إلى المحلية والنظر للحلول في الداخل. لهذا السبب، دعونا نلقي نظرة على تحليل أمين التالي.
حل أمين: فك الارتباط
قدّم سمير أمين مفهوم "فك الارتباط" في كتابه "فك الارتباط.. نحو عالم متعدد المراكز" (Delinking: Towards a Polycentric World) الذي نشر عام 1985، حيث يستهدف من خلال ذلك المفهوم -المتأصل في نظرية التبعية- شرح وتفسير الفوارق الاقتصادية بين دول المركز والأطراف داخل النظام الرأسمالي العالمي.
وتعتمد أجندة فك الارتباط الخاصة بأمين على إعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية بين دول الأطراف والمركز؛ حيث لا يتمثل الهدف هنا في تحقيق الاكتفاء الذاتي، بل في فتح الباب أمام التنمية المتمحورة ذاتياً داخل دول الأطراف. ويسعى فك الارتباط إلى إعطاء الأولوية للاحتياجات المحلية قبل المنطق العالمي، مع التركيز على سياسات تقلب موازين القوى بعيداً عن المراكز العالمية.
لكن من الواضح أن النظام المالي والاقتصادي العالمي الراهن لا يخدم هذا الغرض. فبدلاً من ذلك، يواصل النظام الحفاظ على منظومة تُبقي على جزءٍ من العالم في حالة فقر، بينما يسمح لأقلية صغيرة مميزة باستهلاك موارد الكوكب.
يكمن الحل بحسب سمير أمين في تحليل العيوب الهيكلية للنظام الاقتصادي والنقدي القائم، وتوحيد القوى السياسية القادرة على تغيير الوضع. ويتطلب هذا الأمر حديثاً بلغةٍ تتفهم واقع الأجيال الحالية والأصغر سناً التي تم تهميشها من الحوار، ومشاركة معارفنا بأسلوب مفهوم أكثر، وتناول العيوب الهيكلية التي تواجهها المجتمعات، واستغلال الفرص الظاهرة حالياً.
في الختام، يُمكن القول إن فهم ديناميات الهجرة ضمن سياق العولمة هو أمر يتطلب النظر إلى ما هو أبعد من السردية المبسطة لسباق التنمية الرأسمالي. بينما يطرح مفهوم فك الارتباط الخاص بسمير أمين منظوراً بديلاً يتحدى النظام العالمي غير العادل، ويدعو إلى إعادة هيكلة العلاقة الاقتصادية بين دول المركز والأطراف. ولا شك أنها دعوة إلى عالم أكثر عدالة ومساواة تحظى فيه مصالح المجتمعات المحلية بالأولوية على دوافع التربُّح العالمية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.